يتصدى "جريل ماركوس" لإماطة اللثام عن ذلك السر الدفين الذي يربط بين كل من أميركا وإسرائيل إلى حد يجعل العلاقة بينهما كالرباط القوي الذي يجمع التوأمين وعبر كتابه: "شكل الأشياء المقبلة", يثير الكثير من الملاحظات والجوانب الثقافية التي تسهم في تفسير وجه من وجوه هذه التوأمة, وهي جوانب تكمن في مؤلفات روائية كلاسيكية شهيرة، مثل "موبي ديك" ومؤلفات جون دوس باسوس وغيره, مما جعل منه أحد المحللين الأميركيين المتميزين لظاهرة تميز أميركا نفسها واستثنائيتها. غير أن ما يميز هذا الكتاب تحديداً, أنه وفق في إصابة الجانب الأهم في سر الحبل السري الذي يجمع ما بين أميركا وإسرائيل. وفي معرض الكشف عن هذا السر, يتساءل ماركوس، مثل غيره من المحللين والمعلقين، عما دفع واشنطن وتل أبيب إلى هذا القدر من التوحد في الموقف, رغم الفظائع الإنسانية التي أسفرت عنها الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان؟ والغريب أن السياسات والمواقف التي تمثل محور هذه الوحدة, ليس فيها ما يخدم المصالح الحيوية العليا لأي من الدولتين, بل تتعارض معها تماماً وتهزمها في واقع الأمر. ولماذا تقف واشنطن في الصف الأول من صفوف النار والمواجهة, كلما لاح تهديد ما للأمن الإسرائيلي في الأفق؟ ولماذا تبدو واشنطن بمظهر الحليف الثابت وحامي حمى إسرائيل دائماً؟ الإجابة المباشرة والبديهية على كل هذه الأسئلة مجتمعة هي جماعات الضغط واللوبي اليهودي في أميركا, وقدرة هذا اللوبي على توجيه السياسات الخارجية الأميركية وجهة موالية لتل أبيب بشكل دائم. لكن عندما نسبر عميقاً سر هذه الوحدة الأميركية- الإسرائلية, كما يقول جريل ماركوس, فإننا نتوصل في نهاية الأمر إلى أن كلاً من إسرائيل وأميركا, إنما هما وجهان مختلفان للأمة نفسها وللدولة نفسها. يلاحظ الكاتب هنا أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر قد أطلقت مارد الإرهاب المستهدف للغرب ولأميركا وإسرائيل بصفة خاصة من عقاله, وأن ذلك المارد قد نجح حتى الآن في إراقة الكثير من الدماء في أنحاء مختلفة من العالم. غير أنه يتساءل: ولكن هل كانت تلك الهجمات هي المعنية وحدها حقاً بعنوان صحيفة "نيويورك تايمز" الشهير بعد ذلك: "أميركا تحت الهجوم". ويترتب عن هذا السؤال ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً سؤال آخر: "هل كانت تلك الهجمات المؤشر والدافع الوحيد لإعلان الحرب على الإرهاب؟". وعلى طريقة الغمز والإيماء البعيد إلى المعنى المراد, يلاحظ الكاتب أن العبارة الأكثر إثارة للاهتمام في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان هي "تناسب" ردة الفعل الإسرائيلية على الهجوم الذي تعرضت له من قبل مقاتلي "حزب الله". على أنه يشير في الوقت ذاته إلى أن رفض وتمنع الرئيس الأميركي جورج بوش عن إعطاء أي وزن لعبارة "التناسب" هذه –كما رأينا موقفه من تلك الحرب على لبنان- لم يكن من قبيل المصادفة البحتة بأي حال. والشاهد أن هذا الموقف المنسوب للرئيس بوش له امتداداته المستمرة التي تعود إلى لحظة انهيار برجي مركز التجارة العالمي. ومن باب الإيماء البعيد للمعنى أيضاً يصف المؤلف إسرائيل بأنها دولة حديثة بنيت دعائمها وأركانها على نصوص "العهد القديم". ولذلك فإن لها أنبياءها وحماتها الذين تمتد جذورهم وشجرة نسبهم إلى العهد القديم وحتى ديفيد بن جوريون. ورغم طموحها لبناء ملاذ آمن سرمدي لليهود –باعتبارها أرضاً للميعاد كما يقال- إلا أنها تدرك جيداً وتخشى أيما خشية حقيقة ضعفها واحتمال انهيارها واندثارها كأمل وملاذ لليهود المعذبين في الأرض, في سابق الزمان وفي عصور ما قبل الدولة اليهودية. وعلى سبيل المقارنة, فإن هناك شعوراً دائماً لدى الولايات المتحدة الأميركية, بحداثتها وتميزها واستثنائيتها وتفوقها على غيرها من الدول والأمم. ومثلما تعتقد إسرائيل في جذورها الضاربة في نصوص العهد القديم, فإن لدى أميركا قناعة شبيهة بأن جذورها تضرب هي الأخرى في "صخرة بليماوث" ذات المنابت والأصول الدينية. ومثلها مثل إسرائيل, يرتجف قادتها ومؤسسوها من جيفرسون إلى لينكولن خوفاً على بلادهم من عاصفة يوم مشؤوم, ربما كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر مجرد مقدمة سريعة خاطفة له. ومثلهم مثل القادة الإسرائيليين, فإن ثمة هالة قداسة خاصة تحيط بما يسمى بالقادة المؤسسين هنا أيضاً في أميركا. وليس من قبيل المصادفة أن ترتبط هذه الهالة بنصوص العهد القديم! بل إن من يعود إلى خطابيات الآباء المؤسسين يقرأ عبارات ووعوداً على شاكلة "مدن جديدة ساحرة باهرة الضوء وجبال سامقة مثل القدس, لا يغشى الخوف فيها أحداً, ولا تبرحها الشفقة والرحمة"... إلخ. بل يلمح الكاتب إلى قولة مارتن لوثر كنج الشهيرة عن أنه سوف يأتي يوم, يتحول فيه كل جبل من جبال أميركا إلى قبلة مقدسة يؤمها الناس من كل حدب وصوب. لكنه يلحظ في الوقت ذاته, أن تلك الأشواق الأميركية الغامضة المبهمة المحلقة في سماوات الدين ورحاب نصوصه, إنما تخفي وراءها تصدعات وشقوقاً كبيرة لا تزال تصيب جسد المجتمع والتاريخ الأميركيين. فهي في نظره ليست سوى محاولة لإضفاء معنى ما على ما يفتقر إلى المعنى والهدف المشترك بين الدولتين التوأمين. وإن كان الأمر خلاف ذلك, فهل لأي من القادة الأوروبيين البارزين، سواء كان شيراك أو بلير أو ميركل, أن يتحدث بكل ذاك التأكيد والثقة عن "وحدة المصير والهدف" التي يمتلئ بها فم واشنطن وهي تتحدث عن حليفتها تل أبيب؟ عبد الجبار عبد الله الكتاب: شكل الأشياء المقبلة المؤلف: جريل ماركوس الناشر: دار "فيبر" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2006