بالرغم من قلة التفاصيل الموجودة حالياً، فإن جولة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في المنطقة، ليست حدثاً عابراً أو مفاجئاً، بل هي جزء من منظور كلي ومدروس لهذه المنطقة، وهي بالتالي تستحق التركيز عليها وتحليل سياقها. في الحقيقة تُثبت هذه الزيارة -على عكس توقعات الكثيرين- أن السياسة الأميركية في المنطقة ود. رايس بالذات، متسقتان مع نفسيهما: عينك على الهدف وإن تغيرت الوسائل. ما هو هذا الهدف؟ الهدف هو "الشرق الأوسط الجديد" الذي يحل الآن في التصور الأميركي محل مشروعي "الشرق الأوسط الكبير" أو "الشرق الموسع". أكدت د. رايس هذه المقولة بكل وضوح في بداية حرب إسرائيل ضد "حزب الله"، وخاصة في مؤتمرها الصحفي في شهر يوليو الماضي وعشية وصولها إلى المنطقة. قالت رايس إن هذه الحرب هي آلام المخاض لـ"شرق أوسط جديد" وكررت العبارة مرتين قبل أن تعيدها على مسامع القادة العرب أثناء زيارتها. وباختصار شديد تقوم نظرية "الشرق الأوسط الجديد" على "أولية الاستقرار الإقليمي" كأقصر الطرق لحل مشاكل المنطقة، وبالتالي يجب بذل أقصى الجهود لإقصاء وعزل ما يسمى بـ"المغامرين أو الإرهابيين" الذين يعوقون تحقيق هذا الاستقرار. وكنتيجة منطقية لهذا التصور والأجندة كان لابد من هزيمة "حزب الله" ومن هم وراءه. ونعرف الآن أن هزيمة "حزب الله" لم تتم عسكرياً، ولم تستطع إسرائيل أن تقضي على هذا الحزب رغم القنابل العنقودية وحجم الدمار الذي ألحقته بلبنان. ومن هنا وَجَب استخدام وسائل أخرى لتحقيق نفس الهدف، مثلاً استصدار القرار 1701 من مجلس الأمن لتقنين العمل الدولي ضد "حزب الله" وأهدافه، ثم القوات الدولية للتحكم في سلوكياته على الأرض، ثم الاستمرار في الضغط الدبلوماسي عن طريق "المعتدلين في المنطقة. الإدارة الأميركية تعمل -عن طريق د. رايس- طبقاً لخطة مدروسة تلتزم بهدف مُحدد مع تغيير الوسائل والآليات طبقاً لمقتضيات النظامين الدولي والإقليمي، وهي بهذا تضع إحدى ركائز الاستراتيجية للوقوف على رأسها بدلاً من قدميها. تقول هذه الركيزة الاستراتيجية إن الحرب هي مواصلة السياسة بطرق أخرى، فيما تقول رايس الآن -بالتنسيق مع إسرائيل- إن السياسة هي مواصلة الحرب بطرق أخرى. في الواقع ما هو أهم من أجندة د. رايس، هو ضرورة وجود أجندة عربية مقابلة، تستغل الموقف المواتي الآن لوضع وجهة نظرها بكل وضوح، حيث إن واشنطن حالياً في ورطة في سياستها في المنطقة وتعاني من استنزاف خارجي (في العراق مثلاً) واحتجاج داخلي من جانب عدد متزايد من الأميركيين -حتى في داخل الحزب الجمهوري الحاكم- ضد سياسة بوش، وبسبب هذه الورطة فإن واشنطن مستعدة لأن تسمع، وهذه فرصة ثمينة للدول العربية لفك الترابط الوثيق بين واشنطن والسياسة الإسرائيلية. وقد يكون المدخل العربي هو أن الاستقرار فعلاً أولية، ولكنه لن يتحقق دون تدعيم ركائزه في نفس الوقت، وذلك عن طريق منظور كلي فعلاً في مواجهة مشاكل المنطقة، سواء كانت هذه المشاكل سياسية وعسكرية -الاحتلال والتدمير في فلسطين والعراق- أو اجتماعية واقتصادية، مثل تدعيم مشروعات الإصلاح ومحاربة الفقر والبطالة مثلاً، خاصة بين الشباب. كما على الجانب العربي أن يرفض تماماً تقسيم العرب إلى "معتدلين" و"مغامرين" لأنه سيعود بالمنطقة إلى حرب أهلية عربية ينشغلون بها عن مواجهة المشاكل الحقيقية -كما هو حادث فعلاً الآن بين السلطة الفلسطينية و"حماس"، مثل هذا الاستنزاف قد يؤدي إلى ما يعتبر حلولاً، ولكنها قصيرة الأمد. المهم إذن هو العمل معاً فعلاً لحل كلي متكامل حيث يشعر الجميع بأنهم جزء منه وأن الفائدة ستعم على الجميع حقيقة، بما فيهم واشنطن. باختصار، في زيارة رايس هذه المرة، هناك فرصة عربية لتخطي نوايا واشنطن وتل أبيب، واستغلال ورطتهما لتجميع العرب -حكومات ومجتمعاً مدنياً- حول تصور مقابل وأجندة مستقبلية لهذه المنطقة.