سبق لنا أن صدَّرنا كتابنا "الإمبراطورية الكونية والصراع ضد الهيمنة الأميركية" (القاهرة 2003) بمقدمة عنوانها "خطوات الإمبراطورية المتعثرة" تضمنت تنبؤاً بإخفاق الولايات المتحدة الأميركية في حروبها ضد أفغانستان والعراق. وقد جاء فيها بالنص: "سيشهد التاريخ العالمي في المستقبل على أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي تمثلت في الهجوم الإرهابي الشامل على مراكز القوة الاقتصادية والعسكرية في الولايات المتحدة الأميركية كانت -وعلى عكس ما يرى عديد من الباحثين- نهاية الإمبراطورية الأميركية..! وبيان ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية في رد فعلها العنيف والمتعجِّل على الأحداث المهولة أصدرت قراراً إمبراطورياً بالحرب ضد الإرهاب شعاره: "من ليس معنا فهو ضدنا"! وجاء في القرار التاريخي أن الحرب ضد الإرهاب حرب من نوع جديد لا يحدها مكان أو زمان، بمعنى أنها تتسع دوائرها لتشمل المعمورة كلها من ناحية، وأنها يمكن أن تستمر إلى الأبد من ناحية أخرى"! وبدأت الولايات المتحدة الأميركية حربها ضد الإرهاب بغزو أفغانستان لتصفية تنظيم "القاعدة" والقضاء على نظام "طالبان" المتحالف معه. وتم القضاء على دولة "طالبان"، وإن لم تتم تصفية تنظيم "القاعدة" الذي نشط إرهابياً في أماكن شتى في العالم. غير أن الأنباء الأخيرة الواردة من أفغانستان تشير إلى عودة المقاومة الطالبانية إلى الحياة، وتهديدها الخطير للنظام السياسي الذي أقامته الولايات المتحدة الأميركية. غير أن الحرب الإمبراطورية الأساسية تمثلت في الغزو العسكري للعراق، والذي سبقته حرب دبلوماسية ضارية في مجلس الأمن، فشلت فيها الولايات المتحدة الأميركية في انتزاع موافقة الدول دائمة العضوية على إسباغ الشرعية على القرار الأميركي. وإن كنا تنبأنا في عام 2003 بنهاية الإمبراطورية الأميركية لحظة إعلان قيامها، إلا أننا في نفس المقدمة قررنا أن الولايات المتحدة الأميركية التي دخلت إلى العراق رافعة شعار تحريره، سقطت في الواقع في المستنقع العراقي. وهكذا يمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية التي تعثرت تعثراً واضحاً في العراق، يمر مشروعها الإمبراطوري بمرحلة سقوط لاشك فيها. كان هذا هو تنبؤنا عام 2003، وقد أكد التقييم الفعلي لحرب العراق والذي تم هذا العام (2006) على صدق هذا التنبؤ. وهذا التقييم قام به "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" الأميركى، في بحث كتبه الخبير الاستراتيجي المرموق أنتوني كوردزمان، والذي أشرنا إلى ملاحظاته النقدية من قبل، وأهمية هذا التقييم أنه نشر في 8 أغسطس 2006. وقد رصد كوردزمان كل ضروب الفشل الأميركية في العراق بطريقته المعهودة التي لا تترك شاردة ولا واردة، وبالتفصيل، وذلك قبل أن يُنهي تقييمه بحكم إجمالي يؤكد إخفاق حرب الإمبراطورية الأميركية في العراق، حيث يقرر بالنص "إن أميركا قد قامت بارتكاب سلسلة طويلة من الأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية والعملياتية منذ التخطيط المبدئي للحرب عام 2002 حتى منتصف 2006، ونتيجة لهذه الأخطاء فإن كلاً من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها والعراقيين يدفعون الثمن". لقد بدأت حلقات الفشل الذي واجه الحملة الأميركية على العراق منذ اللحظة الأولى التي وضعت فيها قوات التحالف العسكرية يدها على العراق بعد انهيار الجيش العراقي. وتبين من بعد أن هناك نظرية أميركية صاغتها بعض مراكز الأبحاث عن قواعد المنهج في تدمير الدول المنهارة أو الفاشلة Failed States ثم إعادة بنائها على أسس جديدة! وبناء على هذه النظرية الاستعمارية قررت قوات التحالف فصل كافة الموظفين البعثيين الذين كانوا يعملون في مختلف إدارات الدولة العراقية. وهكذا حرمت العراق من عديد من القيادات العلمانية، وفي نفس الوقت فتح الباب أمام عناصر متعددة تمتلك القوة على أسس عرقية وطائفية. وهكذا ظهرت خريطة سياسية جديدة تتصدرها أغلبية شيعية بازغة لها علاقات دينية وثيقة بإيران، وبروز العناصر الكردية الانفصالية، وفصائل السُّنة التي دفعت دفعاً لكي تتبنى مواقف دينية وليست قومية. وبالرغم من أنه ظهرت بعض القيادات القومية، إلا أن محصلة عملية الهدم المتعمد للمجتمع السياسي العراقي، هي محاولة تطبيق الديمقراطية في بلد يفتقر إلى القيادات السياسية ذات الخبرة، وأحزاب سياسية بازغة قامت أساساً على أساس عرقي أو طائفي، ونقص في الخبرة في مجال تطبيق قواعد حقوق الإنسان وسيادة القانون. وفي هذا السياق فإن الحديث عن الانتخابات أو صياغة دستور جديد يصبح مشوباً بالواقع السياسي المعقد الذي لا يتيح ممارسات ديمقراطية حقيقية، وقد انعكس هذا الواقع على عملية الاستقطاب الواسعة المدى والتي جعلت العراقيين يصوِّتون في الانتخابات ليس على أساس برامج المرشحين، ولكن على أساس انتمائهم العرقي أو الطائفي أو الديني. وحين نظمت انتخابات قومية لأول مرة في 15 ديسمبر 2005 فإن العراقيين صوَّتوا لا ليتَّحدوا ولكن ليتفرقوا. ولاشك أنه مما أسهم في الفشل الأميركى في العراق فيما يتعلق بتحويل النظام السياسي العراقي إلى نظام ديمقراطي نموذجي يمكن أن يحتذيه العالم العربي، أن العملية السياسية التي فرضتها أميركا كانت مستحيلة التنفيذ، وضعاً في الاعتبار المدى الزمني وتعقيد الوضع. إن نهاية ولاية قوات التحالف في يونيو 2004 تركت فراغاً سياسياً واضحاً. فقد تم التركيز على الانتخابات ووضع دستور جديد، وذلك وفقاً لجدول أعمال يتمثل في التصويت على حكومة مؤقتة، والاستفتاء على دستور جديد، ثم التصويت على حكومة دائمة، في مدى زمني يزيد قليلاً على عام واحد، ونعني خلال عام 2005. لقد وضعت على عاتق العراقيين مسؤولية تشكيل حكومة جديدة، وابتداع مناهج جديدة للحكم، وحل ليس أقل من خمسين موضوعاً واردة في الدستور في خلال أربعة شهور بعد تكوين الحكومة، ثم تنظيم حملة لمدة ستين يوماً لاستفتاء دستوري جديد، ثم تطبيق نظام سياسي جديد خلال عام 2006. وهذه العمليات السياسية المتعاقبة لم تؤدِّ إلا إلى تعميق الخلافات الطائفية والعرقية في المجتمع السياسي العراقي. وقد أدى اشتعال هذه الخلافات إلى تحويلها لمعارك دامية بين الأطراف المتنازعة، واضطرت الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها إلى أن تخوض معارك عسكرية ضارية وحروب مدن ضد العناصر السُّنية المتمردة في غرب العراق. غير أن المخططين الأميركيين فشلوا في تقدير خطورة التمرد السُّني البازغ. كما أنهم لم يقدروا خطورة بروز الجماعات السلفية الجديدة، مما يهدد بتقسيم العراق والتمهيد لحرب أهلية. وبعبارة موجزة يمكن القول إن الجهل الأميركي المبدئي بالوضع المعقد للمجتمع العراقي بما ينطوي عليه من مِلل وأعراق وطوائف، وكذلك عدم فهم طبيعة الثقافة العراقية ونوعية الذاكرة التاريخية العربية، جعلها تفشل فشلاً ذريعاً على المستوى السياسي والعسكري على السواء. وقد استطاع الخبير الاستراتيجي الأميركي أنتوني كوردزمان أن يرسم لنا خريطة تفصيلية للفشل الأميركي في العراق. ولعل أول جوانب الفشل العسكري في السيطرة على الأوضاع يتمثل في انغماس القوات المسلحة الأميركية في عمليات تكتيكية قصيرة المدى كان يترتب عليها تخريب المناطق الحضرية، ومن ثم لم تؤدِّ هذه العمليات إلى تحقيق الأمن والاستقرار. وحين أدركت الولايات المتحدة الأميركية وذلك في منتصف عام 2004 أهمية إنشاء قوات عراقية لفرض الأمن والاستقرار، كانت خطواتها بالغة البطء في تأسيس وتدريب هذه القوات. ومن ناحية أخرى تأخر كثيراً الإدراك الأميركي لخطورة بزوغ العنف المدني الذي قام على أساس طائفي وعرقي والذي أصبحت خطورته لا تقل عن خطورة التمرد السُّني. وفي مجال الممارسة التنفيذية لم تفطن الولايات المتحدة في الوقت المناسب إلى أن وزارة الداخلية وغيرها من الوزارات تسلك وكأنها وزارات شيعية وليست وزارات قومية. ويعني ذلك سيطرة الشيعة على الجهاز التنفيذي الحكومي، وهو ما ينتقص من مصداقية النظام السياسي العراقي بمجمله. وإذا أضفنا إلى ذلك أنه لم يتم الاهتمام بما يجب بإعداد قوات الشرطة وتنظيم المحاكم والجهاز القضائي، فمعنى ذلك ببساطة أن تطبيق مبدأ سيادة القانون لم يتم كما ينبغي أن يكون. ولقد أدت الخلافات العرقية والطائفية التي اشتدت على وجه الخصوص عامي 2004 و2005 إلى بداية عمليات خطيرة في مجال الفصل الطائفي والتنظيف العرقي، وكان رد الفعل الأميركي لذلك بالغ البطء والعُقم. وقد ضاعف من الفشل الأميركي عجز وزارة الخارجية الأميركية وغيرها من الوزارات في العثور على عناصر أميركية تقبل بالعمل في العراق وذلك نظراً للمخاطر الشديدة السائدة. كما أن الجهود الأميركية في إعادة الإعمار بدأت متأخرة للغاية، وشابتها جوانب شديدة من القصور، نتيجة قلة خبرة الضباط الضالعين في هذه العملية بالجوانب المعقدة لإعادة الإعمار، بالإضافة إلى نقص الفرق المدنية المدوية، وشيوع الفساد الإداري والمالي في هذا المجال. ومع كل هذا الفشل فإن الإدارة الأميركية مارست المبالغة الشديدة في مجال إبراز نجاحاتها الوهمية، مما أدى إلى فقدان المصداقية في التصريحات الرسمية سواء للرئيس بوش أو لوزير الدفاع. وأخطر من كل ذلك أن الإدارة الأميركية تعمدت التلاعب بنتائج استطلاعات الرأي لتؤكد أن الغالبية تؤيد سياستها في العراق، مما يخلق لدى الجماهير الوعي الزائف بسلامة سياساتها العدوانية في العراق. غير أن عديداً من المثقفين النقديين الأميركيين وفي مقدمتهم شومسكي، والمؤرخ المعروف هوارد زين، والروائي الشهير جور فيدال، لم يتوانوا عن كشف ضروب التزوير التي تمارسها الإدارة الأميركية. ولعل الكتاب الأخير للصحفي الشهير "بوب وودورد" وعنوانه "State of Denial" والذي يمكن أن يترجم حرفياً بأنه "حالة الإنكار" ويعنى "إنكار الوقائع" أو "دولة الإنكار" يعد أبرز إدانة للفشل الإمبراطوري الأميركي. on