ما الذي ستفعله الدول العربية التي أرادت نقل ملف عملية السلام الفاشلة إلى مجلس الأمن، فأعادها إليها. يمر اليوم أسبوعان بالتمام على الجلسة التي عقدها مجلس الأمن يوم الخميس قبل الماضي على مستوى وزراء الخارجية تلبية لطلب جامعة الدول العربية. كان واضحاً قُبيل عقد تلك الجلسة أن ما تطلعت إليه الأمانة العامة للجامعة، بشأن تفعيل دور المجلس في الإشراف على عملية سلام جديدة، لم يكن أكثر من طموح بعيد المنال حتى لا نقول حلماً من أحلام نهاية الصيف. ومع ذلك ظل الأمل في أن يكون من بين أعضائه دائمي العضوية من يشعر بعظائم الأخطار التي يمكن أن تترتب على موت عملية سلام لا بديل عنها إلا إشعال نيران قد لا تكون نار الحرب الأخيرة على لبنان أكثر من مستصغر الشرر بالنسبة إليها. غير أن شكل جلسة المجلس، ومضمونها، أوضحا أن مأساة النظام العالمي الراهن ليست في هيكله أحادي القطبية فقط، ولا في سياسات القطب الواحد فحسب، ولكن أيضاً في هشاشة الوضع العربي وما يقترن به من سوء أداء، إضافة إلى ضعف شعور القوى الكبرى الأخرى بالمسؤولية ووهن إرادتها وقصور رؤيتها الاستراتيجية. فقد بدت الجلسة وكأنها لمجلس أمن في كوكب آخر جاء أعضاؤه إلى الكوكب الأرضي لكي يأخذوا علماً بحالة صراع يمر في لحظة انتقال حاسمة, ثم يعودوا إلى كوكبهم. ولذلك ذهب إدراج الرياح التصور الذي أعدته جامعة الدول العربية بشأن نقل رعاية عملية السلام إلى مجلس الأمن، بل تدشين عملية جديدة تبدأ بعقد مؤتمر دولي يعيد إطلاق المفاوضات في ظل جدول زمني. فقد نص قرار الدورة 126 لمجلس الجامعة في 6 سبتمبر الماضي على "مطالبة مجلس الأمن باعتماد آلية واضحة لإعادة عملية السلام في الشرق الأوسط تكون محددة بفترة زمنية معينة وضوابط محددة تكفل ضمانات لتنفيذها مع إشراف كامل للمجلس..". وهذا تصور شديد الطموح، بل يبدو مثالياً في غياب مقومات موضوعية يستند عليها. ومع ذلك لم يكن مستحيلاً الحصول على شيء منه، ولكن إذا أصرت الدول العربية على عدم العودة إلى الآليات التي ثبت فشلها، وتصرفت دول دائمة العضوية مثل فرنسا وروسيا والصين بطريقة تدل على استعدادها لتحمل مسؤولياتها في مجال حفظ الأمن والسلم الدوليين. ولكن الدول العربية لم تكن على قلب رجل واحد إما لعدم اقتناع بجدوى أي عملية سلمية أصلاً، أو لعدم استعداد لخوض معركة دبلوماسية قوية في مواجهة الرفض الأميركي- الإسرائيلي لأي تغيير في آليات هذه العملية المتبعة منذ عام 1991 فيما يطلق عليه "صيغة مدريد"، مضافاً إليها آلية اللجنة الرباعية التي تم استحداثها عام 2002 . فقد ذهب العرب إلى مجلس الأمن مشتتين كما هو دأبهم، ومتباعدين بأكثر مما كانوا عليه قبل أسابيع. فالخلاف على الموقف تجاه "حزب الله" والعدوان الإسرائيلي على لبنان وسعا الفجوة بين سوريا وكل من مصر والسعودية والأردن. ولذلك افتقدوا التكتيك المنسق، وليس فقط الاستراتيجية المشتركة. ولم يأخذ بعض العرب الذين ذهبوا إلى مجلس الأمن الأمر بجدية كافية إدراكاً لواقع الحال، واعتقاداً في عدم إمكان تغيير هذا الواقع، وبالتالي في عدم وجود ما يبرر المحاولة. لم يؤمن من ذهبوا إلى مجلس الأمن باسم العالم العربي بأن عليهم السعي وليس لهم بالضرورة إدراك النجاح، وبأن توقع الإخفاق لا يبرر عدم بذل الجهد اللازم. وتعامل بعضهم مع الأمر بمنهج عملي "براجماتي" مفرط مؤداه أنه إذا كان مستحيلاً في ظنهم نقل رعاية عملية السلام إلى مجلس الأمن لأن الولايات المتحدة وإسرائيل ترفضان ذلك بشدة، فلماذا إذن نغضب الأميركيين المستائين أصلاً من هذه العاصمة العربية أو تلك إما لموقفها ضد مشروعهم في الشرق الأوسط، أو للتباطؤ الشديد في إصلاح أوضاع داخلية يعتبرها "المحافظون الجدد" في واشنطن منتجة للإرهاب. وليس منطقياً أن يتحمس أي من الدول دائمة العضوية لقضية فتر حماس أصحابها لها، بما في ذلك روسيا التي تؤيد فكرة عقد مؤتمر دولي جديد منذ سنوات، أي قبل أن تأخذ بها جامعة الدول العربية في تصورها الذي اكتفت بإعداده وإرساله إلى نيويورك من دون عمل جاد مع الدول العربية نفسها. وهكذا انتهى بسرعة قياسية ما بدا أنه "انتفاضة" متأخرة عندما أعلن الأمين العام للجامعة السيد عمرو موسى ما معناه أن عملية السلام ماتت، وأن وزراء الخارجية اتفقوا على نقل ملفها إلى مجلس الأمن ليتحمل مسؤوليته, وذلك في نهاية اجتماعهم الأول في منتصف يوليو الماضي في بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان. وعاد الأمر إلى ما كان عليه. فاللجنة الرباعية, التي لم تقم منذ تشكيلها بأكثر من دور شكلي، استأنفت هذا الدور عينه. ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أعلنت القيام بجولة في المنطقة وُصفت بأنها جديدة، وما هي بجديدة في شيء. فلا جدوى مما يطلق عليه محادثات تهدف إلى استعادة عملية سلمية وصلت إلى حائط مسدود يستحيل اختراقه بدون مراجعة جوهرية وأمينة للسياسة الأميركية في ضوء معطيات تفيد أن الفشل الذي لحق بها في السنوات الماضية سيتضاعف في الأعوام المقبلة ما لم تعط أولوية قصوى لحل قضية فلسطين وإنهاء مسألة الجولان وما بقي معلقاً بين لبنان وإسرائيل. وستكون أكلاف هذا الفشل فادحة بالنسبة إلى الولايات المتحدة في صراعها مع إيران التي تعتبرها، والإرهاب، في مقدمة الأخطار التي تواجهها في الفترة المقبلة. وقد رأينا كيف وظفت إيران الفشل الأميركي في العراق لمصلحتها إلى حد أنها تبدو الآن الرابح الوحيد من إزاحة نظام صدام حسين. وهي توظف في مصلحتها أيضاً الاستهتار الأميركي بأثر المظْلمة الفلسطينية الكبرى على العرب والمسلمين. غير أن الانحياز إلى إسرائيل، والذي بلغ أوجَه في إدارتي بوش الحالية والسابقة، يعمي واشنطن عن العلاقة الوثيقة بين الصراع العربي- الإسرائيلي وصراعها ضد إيران. ففي إمكان صانع القرار الأميركي أن يغير الكثير في مسار الصراع بشأن ملف إيران النووي إذا أدرك الأهمية القصوى لإقامة دولة فلسطينية مقبولة من معظم الفلسطينيين والعرب، وحل قضية الجولان، عبر استئناف المفاوضات من النقطة التي أوقِفت عندها، وليس من نقطة البداية. فلا داعي لإعادة اختراع ما سبق إنتاجه، خصوصاً وأن هناك إطاراً عاماً يمكن أن يقود إلى اتفاق بين سوريا وإسرائيل. وهو مودع لدى البيت الأبيض بمعرفة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق فيما يطلق عليه "وديعة رابين". كما أن المفاوضات النهائية الفلسطينية-الإسرائيلية، التي فشلت في كامب ديفيد في يوليو 2000، كانت قد عادت لتحقق تقدماً في الأيام الأخيرة من العام نفسه. ولكن مغادرة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون البيت الأبيض في 20 يناير 2001، حال دون إكمالها لأن خلَفه بوش جاء بجدول أعمال مختلف تراجعت في ظله هذه القضية. وإذا كان استئناف المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية لا يضمن الوصول إلى حل لقضية شديدة التعقيد من نوع مسألة القدس، وكذلك مسألة اللاجئين، فالأمر يختلف بالنسبة إلى المفاوضات السورية-الإسرائيلية في وجود إطار اتفاق جاهز يمكن إحياؤه وصوغ معاهدة على الأسس التي يقوم عليها, وفي مقدمتها "الأرض مقابل السلام". فقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين هو الوحيد من بين قادة هذا الكيان، بعد مناحيم بيغن، الذي تميز ببعد نظر ورؤية ثاقبة عندما تعهد بإعادة الجولان كاملة إلى سوريا وتخلى عن طلب مواقع مراقبة أرضية مدركاً أن استخدام الأقمار الاصطناعية يمكن أن يعوض عنها. كما أبدى حرصاً على حل الخلاف الذي كان قد بقي بشأن بحيرة طبريا، عندما رحب مبدئياً باقتراح قدمته شركة كندية لتحويل هذه البحيرة إلى منطقة استثمار تتولى هي التنسيق فيها لمصلحة الطرفين. غير أن عيب رابين أنه لم يكن حاسماً. ولذلك ضاع ما ترتب على انفتاحه وبُعد نظره عندما خضع لضغوط المتطرفين من اليمين السياسي والمتشددين في المؤسسة العسكرية لإرجاء التوصل إلى اتفاق مع سوريا بدعوى أن وضع الرئيس الراحل حافظ الأسد الصحي لم يكن مطمئناً، وأنه لا ضمان لاستمرار النظام السوري بعده. وربما لو كان رابين امتلك شجاعة تحدي الضغوط والمضي قدماً نحو معاهدة مع سوريا، لتغير الكثير في المنطقة، وربما العالم الآن. ومازال ممكناً بعث "وديعة رابين" من مرقدها في البيت الأبيض لاستئناف المفاوضات بناء عليها باتجاه اتفاق سوري- إسرائيلي. فقد أصبح تفعيل عناصر اتفاق الإطار المتضمنة في "وديعة رابين" هو الأمل الأخير لتغيير معادلات الشرق الأوسط الراهنة التي تقوده إلى هاوية قد تفوق ويلاتها أقصى ما يسمح به خيالنا اليوم.