شهدت الأيام القليلة الماضية، توزيع جائزتي نوبل في الطب وفي الفيزياء. وبهذا الحدث، يكون عدد جوائز نوبل -بجميع أقسامها- التي تم توزيعها حتى يومنا هذا، هو 778 جائزة. ومن بين أقسام وأنواع جائزة نوبل، التي تشمل أيضاً الفيزياء والكيمياء والأدب والسلام، ربما كانت جائزة الفسيولوجيا أو الطب، هي أكثرها رفعة ومقاماً. فمنذ عام 1901، عندما مُنحت الجائزة الأولى في الطب لعالم ألماني، تكريماً على تطويره لقاحاً لعلاج الدفتيريا، ظلت هذه الجائزة تمنح كل عام لاكتشافات طبية مماثلة، لها وقع ضخم وتأثير هائل على الممارسات الطبية اليومية. وعلى نفس هذا المنوال، مُنحت جائزة هذا العام لعالمين من الولايات المتحدة، بسبب أبحاثهما وجهودهما في مجال الجينات. وهي الأبحاث التي يتوقع في المستقبل، أن تستخدم نتائجها في علاج طائفة واسعة من الأمراض والعلل، مثل الأمراض السرطانية والأمراض الفيروسية، وغيرها الكثير. والعالمان، الدكتور "آندرو فاير" (Andrew Fire) من جامعة ستانفورد الشهيرة، والدكتور "كريج ميلو" (Craig Mello) من كلية الطب التابعة لجامعة ماساشوستس، كانا قد نشرا أبحاثهما المشتركة في عام 1998. ومنذ ذلك التاريخ، أدرك المجتمع الطبي والعلمي بمرور الوقت، مدى أهمية تلك الأبحاث، وفداحة تأثيراتها المتوقعة على مستقبل الطب. وكي ندرك مدى أهمية هذه الأبحاث، وما يمكن للجنس البشري أن يحصده من تطبيقاتها العملية، لابد وأن نسترجع بعض المعلومات الأساسية عن الوراثة والجينات. ولتسهيل هذه المهمة، يمكن أن نستعير هنا بعض المصطلحات العسكرية لتقريب الصورة إلى الأذهان. ففي التنظيمات العسكرية، يتكون الجيش من عدة ألوية، تتكون بدورها من كتائب، والتي تتكون بدورها هي الأخرى من جنود وأفراد. وإذا ما نقلنا نفس التنظيم إلى الإنسان، فسنجد أن الجيش هو المادة الوراثية، والألوية هي الكروموسومات، والكتائب هي الجينات، والأفراد هم القواعد الحمضية الأمينية. ففي داخل نواة معظم الخلايا، توجد مجموعة من الكروموسومات (الألوية)، يبلغ عددها لدى الإنسان 46 كروموسوماً. هذه الكروموسومات تتكون من وحدات دقيقة أو لبنات بناء، تترابط مع بعضها بعضاً، وتعرف بقواعد الحمض النووي الأميني (الجنود). وإذا ما نظرنا عن قرب لهذه القواعد الأمينية، فسنجد أن مجموعات مختلفة منها، تعمل مع بعضها بعضاً كوحدة واحدة، تماماً كما يتعاون الجنود داخل الكتيبة العسكرية. هذه الوحدات المستقلة، يطلق عليها في علم الوراثة لقب الجينات، وتتخصص هي الأخرى في أداء وظيفة واحدة أو مهمة محددة. فمثلاً هناك جينات مسؤولة عن لون العينين، وأخرى عن إفراز هرمون الإنسولين، وثالثة عن الإحساس بالجوع، وهلم جرا. ويقدر العلماء أن الجنس البشري، يمتلك ثلاثين ألف جين ضمن تركيبته البشرية، يضطلع كل جين منها بوظيفة محددة في الجسم. وما اكتشفه "آندرو فير" و"كريج ميلو"، واستحقا عليه جائزة نوبل، هو إمكانية وقف عمل هذه الجينات كلاً على حدة. فالجين كي يؤدي وظيفته -بغض النظر عن ماهية هذه الوظيفة- لابد وأن يرسل رسائل كيميائية للخلايا لتنفيذ أوامره، من خلال ما يعرف بالحمض النووي الرسول (mRNA). وبالتالي إذا ما تمت معارضة هذه الرسائل ومنع وصولها (mRNA Interference)، يظهر الجين كما لو كان صامتاً لا يصدر أية أوامر للخلية، وهي العملية التي تعرف بإسكات الجينات (Gene Silencing). ولكن ما هي أهمية إسكات الجينات؟ وكيف سيستفيد الجنس البشري من هذه العلمية؟ بداية هناك الجينات المعيبة غير المستقرة، أي الجينات التي تقوم بوظائفها بشكل مختل ومعيب، مسببة بعض أنواع الأمراض الوراثية. فمن الممكن من خلال الأسلوب الجديد إسكات هذه الجينات، ومنع تأثيرها السلبي على بقية خلايا وأعضاء الجسم. هذا الأسلوب يمكن أن يستخدم أيضاً ضد الجراثيم التي تغزو الجسم، مثل فيروس التهاب الكبد (أ) و(ب)، وفيروس الإنفلونزا، وفيروس الحصبة. فمن الممكن معارضة الرسائل التي ترسلها الجينات الموجودة في تلك الفيروسات، وبالتالي منعها من استغلال الخلايا في التكاثر والانتشار داخل الجسم. أي أنه يمكن إسكات الجينات الموجودة داخل تلك الفيروسات، والضرورية لبقائها وانتشارها في الجسم. ومن الممكن أيضاً استخدام مثل هذا الأسلوب ضد الخلايا السرطانية، وإسكات الجينات الموجودة داخلها ومنعها من التكاثر الهائل والانتشار الواسع، وهي الخصائص التي تميز الخلايا السرطانية. ولن يتسع المقام هنا لذكر وتعداد الاحتمالات والاستخدامات التي ستنتج من تملك الإنسان للقدرة على إسكات الجينات، سواء كانت جيناته هو أم جينات الكائنات الأخرى. هذا بالإضافة طبعاً إلى أن هذا الأسلوب يمكن تطويعه للتعرف على وظيفة كل جين على حدة. فمن خلال إسكات الجين، ثم قياس الآثار الناتجة، يمكن تحديد وظيفة هذا الجين بدرجة عالية الدقة. وكنتيجة لأهمية هذا الاكتشاف، قررت الجهة المسؤولة منح العالمين الأميركيين جائزة هذا العام، بعد ثماني سنوات فقط من نشر العالمين لبحثهما في الدورية العلمية المرموقة "نيتشر"، وهي فترة قصيرة جداً بكل المعايير. ففي خلال هذه الفترة، انتشرت بشكل واسع مراكز الأبحاث، والشركات الممولة من رؤوس الأموال الخاصة، والهادفة جميعها إلى تطوير هذا الأسلوب، واستغلاله في الوقاية من، وعلاج طائفة واسعة من الأمراض. هذه الصناعة الضخمة، ترتكز دعائمها حالياً على تغيير ثوري في مفهومنا للعلميات البيولوجية وكيفية التحكم فيها، وهو التغيير الذي استحق عنه "آندرو فير" و"كريج ميلو" أعلى الجوائز العلمية مقاماً ومكانة. د. أكمل عبد الحكيم