بعد ست سنوات من مشاعر المرارة البالغة، التي سيطرت على الأجيال العربية التي عاصرت بوعي مأساة الهزيمة الفادحة، التي نزلت بجيوشنا في يونيو 1967.. كان المشهد العام في القاهرة متسماً بالتوتر والسخط. كان من المستحيل علينا نحن العاملين في المجالين الأكاديمي والثقافي، أن نتصور مع اقتراب يوم السادس من أكتوبر 1973 الموافق (العاشر من رمضان)، أن ساعة الصفر قد دنت. قبل ذلك اليوم بشهور قليلة كانت الجامعات المصرية مشتعلة بالمظاهرات التي اندلعت بمشاركة الطلاب والأساتذة، احتجاجاً على تأخر قرار القيادة السياسية ببدء معركة التحرير. ورغم أن مجال تخصصي الأكاديمي وهو الدراسات العبرية، كان يتصل مباشرة بالمجهود الحربي، إلا أنني وزملائي في المجال، كنا نعاني نفس ما يعانيه الأكاديميون البعيدون عنه من مشاعر الضيق، تجاه ما اعتبره المصريون تلكؤاً من الرئيس الراحل محمد أنور السادات في اتخاذ القرار. اليوم وبعد ثلاثة وثلاثين عاماً أجد نفسي في موقع النادم على تلك المشاعر الظالمة للرجل، وأطلب من الله عز وجل الغفران على سوء الظن في ذلك الزعيم، الذي فرض على قراره سرية مطلقة ليضمن له النجاح. لقد فضل السادات أن يتعرض للسخرية من جماهير الشعب عندما راح يتعلل في خطبه، بأن عام الضباب قد حال بينه وبين اتخاذ قرار الحرب، وهو عام 1972 الذي شهد نشوب اشتباكات واسعة بين الهند وباكستان. كان الرجل بالتأكيد يتمتع بقوة داخلية هائلة لا مثيل لها، فلقد كان يتعمد أن يعرض نفسه بكلام ساذج لسخرية الناس عندما يقول في خطبه إن الضباب الناتج عن الحرب الهندية- الباكستانية قد أخر قرار حرب التحرير، ويترك الناس تتساءل في اندهاش عن العلاقة بين الأمرين، ويترك خصومه السياسيين من المعسكرات اليسارية المتنوعة يتندرون عليه بين الناس ويطلقون النكات المستهزئة به. يبدو لي أن رجلاً يعرض نفسه لكل هذا وهو يدخر في داخله قرار الحرب التي يطالبه بها الجميع، هو رجل غير عادي. فلنقل إنه رجل دولة من الطراز الأول يعلي المسؤولية الوطنية على مشاعره الشخصية، ويضع الصالح العام فوق صورته. أو فلنقل إنه مهيأ بالفطرة لتحمل الأوضاع المتناقضة العصيبة، وهو ما يشهد عليه تاريخه النضالي منذ كان ضابطاً صغيراً بالجيش، يعرض نفسه للفصل من الوظيفة وللمحاكمة بسبب اندفاعه في محاربة الاحتلال البريطاني. أياً كان ما نقول في محاولة لإنصاف الرجل من تلك المشاعر المستهزئة، التي سيطرت علينا في مصر تجاهه قبل أن تنطلق المدافع في الثانية بعد ظهر السادس من أكتوبر الموافق العاشر من رمضان، فإن الآثار التي تركها في بناء الهيكل القيادي في إسرائيل تشهد له بالإنصاف أكثر من أي كلام نقوله اليوم. لقد استطاع السادات بتعليماته اليومية التي كان يبتدعها شخصياً كل ليلة، أن يُحكم خطة الخداع الاستراتيجي التي وضعها القادة العسكريون المصريون لتثبيت النظرة الإسرائيلية المستعلية على الجيوش العربية والمتسمة بجنون العظمة المفرط. لقد طلب السادات تحريك القوات المصرية في تشكيلات هجومية قبل السادس من أكتوبر بأربعة أشهر في شهر يوليو 1973 على جبهة القناة، وهو ما أجبر القيادة الإسرائيلية على إعلان حالة الطوارئ وجمع الاحتياط، وهو أمر ذو تكلفة لوجستية واقتصادية عالية على الإسرائيليين، ثم قام السادات قبل اكتمال جمع الاحتياط الإسرائيلي بإعادة قواته إلى أوضاعها الأصلية. من هنا استقر في روع القيادة الإسرائيلية أن ذلك التحرك المصري الواسع كان مجرد تحرك تدريبي لا يدل على أي نوايا هجومية. لقد تلت ذلك الإجراء البارع عدة إجراءات من ابتداع السادات نفسه، مثل نشر أسماء قادة الأسلحة الذاهبين لأداء عمرة رمضان قبل أيام قليلة من السادس من أكتوبر. في ضوء إبداعاته الشخصية كان طبيعياً أن تنظر القيادة الإسرائيلية إلى التقارير عن تحركات الجيش المصري في الجبهة منذ الرابع من أكتوبر، نظرة استخفاف وتعتبرها تحركات للتدريب أو رفع المعنويات، وبالتالي تمتنع عن استدعاء الاحتياط.. ليأتي السادس من أكتوبر بالمفاجأة الكبرى التي تحمل عبئها رجل أخلص لرسالته.. رحمه الله.