منذ أن طبقت الإدارة الأميركية الحالية، سياسة تغيير الشرق الأوسط بالقوة، لم يتحقق هدف مفيد لأي طرف, بما فيه الأميركيون أنفسهم. ووفقاً للتقرير الأخير لوكالة المخابرات المركزية الأميركية, أدى الغزو الأميركي للعراق إلى نشأة وانتشار جيل جديد من الإرهابيين أكثر عنفاً وضراوة من كل من سبقهم. وبدلاً من أن تكسب إدارة بوش ما تسميه "الحرب ضد الإرهاب" فهي تخسرها كل يوم, في العراق, وربما أيضا في أفغانستان. ولم تزد فكرة الشرق الأوسط الكبير أو الموسع التي أطلقتها هذه الإدارة عن أن تكون فقاعة كبيرة بدون محتوى. فالنظام الإسلامي في إيران لم يسقط ولم يسلم بالمطالب الأوروبية والأميركية فيما يتعلق بالملف النووي, بل إنه يزداد تشدداً, ويزداد الإصلاحيون هناك ضعفاً. ولم يسقط النظام السوري الذي خصصت له الإدارة الأميركية جانباً كبيراً من ضغوطها المتوحشة, بل على العكس ازداد تشدداً بدوره. وبعد أكثر من ست سنوات من إطلاق الوحش الإسرائيلي الهائج ضد الشعب الفلسطيني لم يركع هذا الشعب لنظام الاحتلال بالرغم من تواصل عمليات القتل والتخريب والتجويع الشاذة. والنجاح الاستراتيجي الجزئي الذي حققته هذه الإدارة في لبنان معلق بمعارضة قوية لم تنفع معها عملية إطلاق الوحش الإسرائيلي الهائج لشن حرب جنونية ضد "حزب الله" والمقاومة اللبنانية. وعلى المستوى الداخلي لم تحقق الضغوط الأميركية والأوروبية للانتقال إلى نظم ليبرالية، سوى نجاحات هامشة للغاية. توسعت وتنوعت الساحة الساسية في عدد من البلاد, وتحملت الحكومات القائمة جرعات أكبر بكثير من النقد, ولكن آليات عمل النظم السياسية لم تتغير بصورة مهمة. وبينما لم تحقق الإدارة الأميركية غرضاً أو هدفاً مفيداً لها حتى في العراق المحتل, فقد أغرقت المنطقة في وحل من المشكلات قد لا يسهل حلها, وأشعلت فيها حرائق قد لا يسهل إطفاؤها في الحاضر أو المستقبل. ففي العراق, توسعت عمليات القتل الجماعي حتى أصبح البلد مجزرة كبيرة تعمل بصورة يومية فيما يبدو وكأنه محطة من محطات الجحيم. وحيث أن مختلف القوى الفاعلة قد توحشت وانحطت إلى مستوى العصور البدائية, لن يكون من السهل تهذيبها بسرعة لإدارة مجتمع سياسي معقد مثل العراق, بل يتوقع الجميع أن يتعاظم الحريق شدة فيما يسميه البعض حرباً أهلية, ويعتقد آخرون أن العراق يعيشها بالفعل. وتوسعت هذه الإدارة في توظيفها الشرير للطائفية على مستوى المشرق العربي كله. وكما علمتنا صراعات الهويات أو المنافسات العرقية والثقافية، فقد تمتد الخضات السياسية والحروب الأهلية لفترات زمنية طويلة المدى, وهو ما يدفع المراقبين العرب لأن يضعوا أيديهم على قلوبهم خشية من وقوع انقلاب تاريخي في العلاقة الأخوية والعضوية بين الشيعة والسنة، خاصة في العراق ولبنان وبعض دول الخليج. وحيث أن التطرف يتوسع في جميع الدول العربية, يبدو المستقبل غامضاً لا فقط فيما يتعلق بقضية طبيعة الدولة, بل وأيضاً فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان وحكم القانون والسلام الأهلي عموماً. ففي هذا السياق أيضاً تكاد العلاقة بين العرب والغرب تصاب بشلل كامل, وخاصة بعد فشل الدول العربية في وضع قضية احتكار إسرائيل للأسلحة الذرية على جدول أعمال الوكالة الدولية للطاقة الذرية, وفشلها أيضاً في إقناع مجلس الأمن بضرورة التحرك للقيام بمعالجة جديدة للصراع العربي الإسرائيلي. ويبدو من المؤكد أن الصلات التاريخية بين العرب والغرب تأخذ منحنى خطراً. فبعد أن كانت أوروبا تتصدى للسياسات والمواقف المغامرة لإدارة جورج بوش صارت تتبناها وكأنها مواقف أصيلة لها أيضاً. ويتعامل الغرب بصورة متزايدة مع الشرق الأوسط وقضاياه ككتلة موحدة تقريباً, بينما تقوم كل دولة من دول المنطقة بوضع سياساتها الدولية والإقليمية الخاصة بما في ذلك التعامل مع الولايات المتحدة وأوروبا, وهو ما دفع النظام الإقليمي إلى شيء قريب للغاية من نظام أمراء الطوائف في الأندلس قبل سقوطها أو أمراء الحرب في المشرق أثناء الحروب الصليبية. يمكن هذا النظام العربي والشرق أوسطي الكتلة الغربية من التلاعب بمصير المنطقة وتناقضاتها وانقساماتها ومنافساتها, ولكن هذا التلاعب لا يفيد الغرب بل يجعله يصغر إلى درجة مثيرة للسخرية لأنه صار فاقداً للرؤية وعاجزاً عن إنتاج أية حركة إلى الأمام, سواء فيما يتعلق بمصالحه الكبرى أو فيما يتعلق بنسق التعايش المتوتر مع العالم العربي والشرق الأوسط ككل. وببساطة يبدو أن لعنة بوش قد اصابت الجميع. فالجميع يخسرون بالرغم من اشتداد الصراع على مصير المنطقة. تخسر المجتمعات العربية لأنها تعيش حرائق كبيرة, قد تزداد اشتعالاً. وتخسر أوروبا هيبتها واحترامها في الحيز الدولي, وتخسر الولايات المتحدة مرتبة الدولة العظمى الوحيدة لأنها لم تعد قادرة على أداء أية وظيفة مفيدة, فضلاً عن أنها تخسر تماماً هيبتها وقبولها في المنطقة وفي العالم. في هذه اللوحة, تبدو إسرائيل وكأنها الفائز الوحيد, لأنها تمكنت من دفع الأميركيين لتدمير العراق, وتشتيت العالم العربي وإخضاع العالم الإسلامي كله للحصار, وتكسب أيضاً اختفاء الضغوط الدولية الضرورية لإجبارها على الانسحاب من الأرض المحتلة وإسقاط نظرية إسرائيل الكبرى. ومع ذلك, فإسرائيل ليست فائزاً صافياً. فهي أيضاً تخسر أشياء مهمة. تسخر أولاً ما حققته بالدعاية من تعاطف الرأي العام الغربي، كما تدل على ذلك بوضوح استطلاعات الرأي العام, ليس في أوروبا وحدها بل وفي الولايات المتحدة ذاتها. ثم هي تخسر ثانياً الأساس المعنوي للاحتلال, إذ وضعت الانتفاضة والمقاومة الباسلة لـ"حزب الله" في الحرب الأخيرة نهاية للخوف من قوتها العسكرية, ثم هي تخسر كذلك ما حلمت به من تطبيع لوجودها الاستثنائي والظالم. وبوجه عام أخفق الجميع في تحقيق أهدافة من الصراعات الحالية. وتنتج هذه السمة موقفاً ساخراً من مختلف النظريات التي عرفها العالم خلال القرن الأخير, مثل نظرية نهاية التاريخ ونظرية العالم كقرية صغيرة, ونظرية التقدم, بل ونظرية الصراع الدولي ذاتها. فصراعات المنطقة هي أكثر صراعات التاريخ عقماً وجدباً, ليس لأن الجميع فيها خاسرون وحسب, بل ولأنها لم تنتج آثارا إيجابية يعتد بها بالنسبة للمنطقة والعالم, بل العكس هو الصحيح, أي أن العالم كله مهدد بالعودة إلى القرون الوسطى أو حتى العصور البدائية, من الناحية الأخلاقية والثقافية على الأقل. هل تمثل الحقبة الحالية من صراعات المنطقة مرحلة انتقالية تؤدي في النهاية إلى شيء ما؟ إن كل فاعل مهم في هذه الصراعات يتصور ذلك, وإلا لما استمر. غير أن الأمل في أن يغير واقع المنطقة وصراعاتها مسارها الحالي ليس سوى وهم. واليوم, لا تستطيع الولايات المتحدة أن تنسحب من الصراع لأنها تكون قد اعترفت بالهزيمة. ولا تستطيع قوى المقاومة أن تكف عن الثبات في وجه الاحتلالين الأميركي والإسرائيلي لأنها تنتظر أن يسلم الأعداء. وبذلك قد تستمر محنة المنطقة فترة طويلة. هل هناك مخرج من هذه المصيدة؟ هل هناك ترياق للعنة بوش؟ تنصحنا علوم الاستراتيجية بإعادة ترتيب الأوراق عندما نصبح أسرى طريق مغلق لا حل له. والطريقة الوحيدة لإعادة ترتيب الأوراق في الموجة الراهنة من الصراع في الشرق الأوسط، قد تتم عبر صفقة متكاملة ترضي الحد الأدنى من المصالح المشروعة للفاعلين الأساسيين. ويجب أن يكون التفاوض حول هذه الصفقة شاملاً ودفعة واحدة وعلى نحو جماعي, بما لا يترك أي فاعل أساسي. وما نقترحه هو عقد قمة عربية مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن, أو قمة عربية عالمية.