ما هو أعظم إثم وخطورة من العمل الإرهابي ضد الآمنين، هو تبريره ثم توظيفه ثم تمجيده، فالإرهاب لكي يحيا وينتعش وينتشر كالوباء، يحتاج إلى مناخ تبريري وبيئة تمجيدية وثقافة محرّضة، وهذا ما يقوم به- للأسف- جيش من الكتاب والصحفيين والإعلاميين ومشايخ وعلماء دين. لقد جندت فضائيات معينة نفسها لخدمة الطرح الإرهابي وتبريره، ووظفت منابر بيوت الله لدفع شباب غض وتغريره للذهاب إلى ميادين الهلاك بحجة الجهاد والاستشهاد، وذلك تحت سمع وبصر الحكومات العربية، وما عجزت عنه الفضائيات والمنابر تكفلت به المواقع الإلكترونية المتطرفة التي تتبادل التهاني والتبريك عقب العمل الإرهابي. وإذا استطاعت الحكومات ضبط المنابر والفضائيات فهي عاجزة عن وقف المواقع الأصولية مثل "الساحات" وبقية المواقع المروجة لفكر "القاعدة". يقول طارق الحميد: (سألت مسؤولاً أمنياً في السعودية، إنه على الرغم من النجاحات الأمنية المتتابعة إلا أنني لا أفهم كيف ينضم هؤلاء الصغار إلى "القاعدة"؟ قال بسبب (إمام الضلال)! سألته من هو؟ قال: "الإنترنت")! صحيفة الشرق الأوسط 27/9. ولذلك يتعجب المرء من ذلك المنطق التبسيطي الذي يحكم كتابات بعض المثقفين من أصحاب المقالات، حين يتجاهلون الأسباب الحقيقية لانتشار الفكر الإرهابي بين بعض الشباب في المنطقة، ويقفزون فوق العوامل الموضوعية التي ساندت ولا زالت تغذّي الفكر الإرهابي، ليقرروا أن الحرب الأميركية في العراق هي التي أدت إلى استفحال الخطر الإرهابي وهي التي أجّجت الإرهاب! لقد وجدوا ضالتهم في مقتطفات من تقرير أعدته (16) وكالة استخبارية أميركية عن دور الحرب في العراق في تزايد النشاط الإرهابي، وعلى طريقة لقد شهد شاهد من أهلها، قالوا، ألم نقل لكم إن سياسات واشنطن الحمقاء هي السبب في انتشار المد الإرهابي وضراوته؟! منطق هؤلاء الكتاب يقوم على(لو) الافتراضية، إذ يقولون: لو لم تضرب أميركا "القاعدة" وتدمر أوكارها وتطارد زعيمها وتشرّد أتباعها وتقبض على بعض زعمائها لتضعهم في أقفاص غوانتانامو لما استفحل العمل الإرهابي! ولو لم تعمد أميركا إلى غزو العراق وإسقاط نظامها القمعي والقبض على رئيسها وحلّ وتفكيك جيشها وقوات الأمن فيها وتسريحها، لما أصبحت العراق محضناً دافئاً للإرهابيين الذين تسللوا إليها من كل صوب واتخذوها قاعدة لعملياتهم ريثما يعاد تصديرهم لدول المنطقة! يقول د. وليد الطبطبائي -النائب الإسلامي في الكويت- "أميركا خسرت معركة الإرهاب! لماذا؟ لأنها استفزته فخلقت المئات من (بن لادن) وفرّخت محاضن الإرهاب". ويبدو أن الكثيرين في الساحة يشاطرونه هذا الرأي. فهل -حقاً- خسرت أميركا معركة الإرهاب أم نحن الذين خسرنا شبابنا؟! ولكن دعونا-الآن- نناقش المنطق الافتراضي الذي ينتقد السياسة الأميركية في تصديها للإرهاب، عبر نقل الحرب إلى عقدر داره فيما سمي بالضربات الوقائية وعدم الاكتفاء بسياسات الدفاع والتحصين. فهل صحيح لو لم تضرب أميركا "القاعدة"، ما استفحل شرها؟! لماذا لا نتصور افتراضاً عكسياً يقول: لو لم تعلن أميركا الحرب على الإرهاب وتجند العالم وراءها عبر مطاردة العناصر الإرهابية وكشف خلاياها وتجفيف مصادر تمويلها ومراقبة اتصالاتها، لكان خطر "القاعدة" أكبر وأعظم! هل كان (بن لادن) سيكتفي بأفغانستان في ظل حكومة "طالبان"؟ من يقول بذلك لا يعرف حقيقة فكر "القاعدة" وأيديولوجيتها وأهدافها التوسعية نحو تكوين الدولة الإسلامية في أفغانستان، كنواة لدولة الخلافة بحسب تصورات "القاعدة" في تقسيم العالم إلى فسطاطين! (بن لادن) لم يلجأ إلى أفغانستان لتحقيق حلمه في دولة الخلافة إلا بعد أن عجز عن تحقيقه في بلده السعودية ثم السودان. ولو لم تضرب أميركا الوليد "القاعدي" في عقر داره فهل كانت الدول العربية قادرة على مواجهته بعد أن يصبح مارداً متوحشاً لا عقل له ولا قلب؟! ثم دعونا نسأل د. وليد، من الذي استفز الآخر-أولاً- "القاعدة" أم أميركا؟ أليست "القاعدة" هي التي استفزّت أميركا-أولاً- عبر سلسلة من العمليات الإرهابية ضدها بدءاً بضرب مركز التجارة العالمي عام 1993 مروراً بأحداث "العُليا" في الخُبر ثم الصومال والسفارتين والمدمرة " يو إس إس كول"، وأخيراً البرجين الشامخين رمز الكبرياء الأميركي؟! ماذا يريد د. وليد ومن معه من أميركا، هل يريدون من أعظم قوة أن تقف متفرجة أمام من أدمى أنفها وضربها في عقر دارها؟ هل يريدون منها أن تسترضي الإرهاب كما هي سياسة بعض الدول العربية التي سخرت إعلامها للرموز الدينية والقومية المحرّضة والمسترضية للطرح الإرهابي بحجة أنهم يثأرون لكرامة الأمة وشرفها؟! هذا المنطق فضلاً عن سذاجته فهو انهزامي، لأنه يدعو للاستسلام لقوى الشر والإجرام خشية أن يستفحل شرها، ولو أخذنا به لأصبحت الحياة مرتعاً يفسد فيها أهل الإجرام بلا مواجهة أو عقوبة، ومنطق هؤلاء مؤداه أن الإرهابيين هم الذين يوجهون سياسة دولنا. يستنكرون على أميركا إسقاطها النظام القمعي في العراق بحجة أن ذلك شأن الشعب العراقي! حسناً فمن يجير ويخلص شعباً طال بلاؤه؟ ولماذا لجأنا إلى أميركا من أجل إنقاذ المسلمين في البلقان بعد تردّد الأوروبيين في مواجهة العدوان الصربي، ولم نقل إنه شأن داخلي؟ ولماذا استعنا بها في تحرير الكويت؟ ومن أجل حصول السلطة الفلسطينية التي كانت مشردة في الآفاق، على موطئ قدم لها في فلسطين؟! هذا المنطق الانهزامي هو نفسه المنطق الذي ساد إبان غزو صدام للكويت، إذ قال بعض العرب: لا تنتقدوا صدام حتى لا تستفزوه فيركب رأسه ولا يخرج من الكويت! لو أخذنا بمنطقهم لما خرج صدام ذليلاً! وإذا كان الإرهاب قد توحش وزاد ضراوة، فهذا بسبب عجزنا نحن لا أميركا، وبسبب سياستنا الخاطئة في التمكين لدعاة التحريض وفقهاء الكراهية من منابرنا وإعلامنا ومؤسسات التوجيه والتثقيف الذين يقولون: حرب أميركا على الإرهاب هي حرب على الإسلام. وبسبب قصور مناهجنا التربوية في تحصين شبابنا أمام الفكر المتطرف. شيطان "القاعدة" سوّل لها ضرب أميركا واستدراجها، ولنشكر الله، على أن هذا الاستفزاز كشف أن محاضن الإرهاب بين ظهرانينا أشبه بالورم السرطاني ينمو ويتضخم ونحن في غفلة عنه.