من بين أهم أهداف زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس للمنطقة: إحياء "عملية السلام" (بغض النظر عن معنى ذلك)، دعم سلطة محمود عباس مقابل إضعاف حكومة "حماس"، وتشكيل تحالف إقليمي لمواجهة نمو الدور الإيراني في المنطقة، وأخيرا مواجهة نتائج فشل الحرب الإسرائيلية على لبنان في تحقيق أهدافها. هذه أجندة طموحة، لكن هل إدارة بوش جادة في هذا الإتجاه؟ الشيء الوحيد الذي يمكن القول بأن إدارة بوش جادة فيه هو تطويق فشل إسرائيل في حربها الأخيرة، وترميم سمعة الدولة العبرية، وإخراج "حماس" من الحكومة، ونزع سلاح "حزب الله". ماعدا ذلك تفاصيل غير مهمة. بالنسبة لإيران يبدو أن الأميركيين يميزون بين امتلاكها للسلاح النووي ونمو دورها الإقليمي. مثلا الأميركيون جادون (بغض النظر إن كانوا سينجحون في ذلك أم لا) في سعيهم لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي. لكن سياساتهم على الأرض تتناقض مع ذلك: يدعمون امتلاك إسرائيل للسلاح النووي، ويغضون النظر عن السلاح النووي لدول محيطة بإيران. الموقف الأميركي من نمو الدور الإيراني لا يتسق تماماً مع الموقف من مشروع إيران النووي. نمو الدور الإيراني مع امتلاك السلاح النووي مرفوض أميركياً. ماذا لو استطاعت إيران، بشكل أو بآخر، فرض خيارها النووي؟ هذا سؤال افتراض بدرجة كبيرة. لكنه سؤال مطروح، وهو مصدر إصرار الأميركيين على عامل الوقت. لو نجحت إيران لن يكون أمام واشنطن إلا التعامل مع الأمر الواقع. عندها سيكون المشهد مختلفاً تماما، إلا في شيء واحد، وهو أن سيرورة الضعف العربي تكون عندها قد وصلت إلى محطة أخرى منطقية. من ناحية أخرى، نمو الدور الإيراني من دون سلاح نووي سيكون مقبول أميركياً. هنا ينبغي ملاحظة أن الإدارة الحالية لعبت دوراً أساسياً في نمو الدور الإيراني، سواء من خلال احتلالها للعراق وتحالفها مع حلفاء إيران، أو من خلال تبنيها غير المحدود للسياسة الإسرائيلية، ورفضها المستمر لأية عملية سلام جادة وحقيقية في المنطقة. في كل ذلك كانت إدارة بوش (الإدارات السابقة لا تختلف عن ذلك كثيراً) تزيد من إضعاف حلفائها العرب، وتحجيم دورهم الإقليمي، مما أفسح المجال أمام الدور الإيراني، وأمام المنظمات التي تسعى هذه الإدارة الآن إلى تهميشها، مثل "حماس" و"حزب الله". هذا يأتي بنا إلى ما يسمى بـ"عملية السلام" التي يقال إن "رايس" جاءت إلى المنطقة لإحيائها؟ تقول المصادر إن الطريقة التي تراها "رايس" لإحياء "عملية السلام" تتمثل في دعم "أبومازن"، وإضعاف "حماس". ماهو المطلوب هنا تحديداً؟ إما أن تعترف حكومة "حماس" بإسرائيل وبالإتفاقيات السابقة، أو أن يتم تهميشها تمهيداً لإسقاطها. ما هو الإحياء في كل ذلك؟ هذه هي الطريقة الأميركية القديمة نفسها التي تسببت في قتل ما تقول "رايس" إنها تحاول الآن إحياءه. لماذا على "حماس" أن تعترف بإسرائيل من دون مقابل؟ وهل اعترفت إسرائيل بالفلسطينيين كشعب له الحق في إقامة دولته المستقلة، بعاصمتها القدس؟ المنهج الأميركي القديم الذي يرتكز على فكرة الاعتراف العربي بإسرائيل من دون مقابل بدأ مع مصر منذ أكثر من ربع قرن، ولم يؤد إلى الآن إلا إلى مزيد من الحروب وعدم الاستقرار. كلما تمادت أميركا في فرض هذا النهج، كلما زاد ابتعاد المنطقة عن السلام. الأميركيون يعرفون هذا الشيء. ويعرفون أن منهجهم مفصل على مقاس الإستراتيجية الإسرائيلية. هل كانت هناك بالفعل عملية سلام؟ وإذا كانت هناك مثل هذه العملية فمن الذي قتلها حتى احتاج الأمر إلى إحيائها من جديد؟ والسؤال الأهم: هل كانت الولايات المتحدة، وخاصة إدارة بوش الحالية، في أي وقت من الأوقات جادة في موضوع السلام؟ في الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة بدا، وكأن الدول العربية أصبحت هي الأخرى في وارد الاعتراف بفشل عملية السلام هذه، وفشل الدور الأميركي فيها. مصر هي التي طرحت فكرة أن أميركا تملك 99% من أوراق الحل. تبين أن هذه الأوراق تذروها الأحداث والتطورات. المهم، ذهب العرب إلى مجلس الأمن الدولي في الشهر الماضي يطلبون تدخله. لم يكن واضحاً تماماً ما الذي أراده العرب من مجلس الأمن. هل أرادوا استعادة دوره في الإشراف على المفاوضات العربية الإسرائيلية؟ هذا ما بدا أنهم يهدفون إليه؟ ما معنى ذلك؟ هل أرادوا أن يكون إشرافه حصرياً، مما يعني إنهاء الإشراف الأميركي؟ لكن يبدو أن العرب لا يستطيعون الإعلان بأن الدور الأميركي في عملية السلام كان فاشلاً، وكان كارثياً عليهم. الأمر الذي يتطلب إعادة موضوع الصراع العربي- الإسرائيلي إلى الأمم المتحدة. طبعاً أميركا ترفض ذلك، وكذلك إسرائيل. المهم أن التغير الذي بدا أنه حصل في الموقف العربي هنا، وهو تغير كان في طور الاحتمال، لم يلح في الأفق إلا بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. ربما كشفت هذه الحرب للدول العربية الاختلالات التي تركتها "عملية السلام" بعد ما يقرب من العقدين على بدايتها. التدهور المستمر في الأراضي الفلسطينية منذ 1993م كان ولا يزال مؤشراً أوضح، وأكثر مدعاة للقلق. لكن الدول العربية، وتحديداً مصر حسني مبارك، لا ترى الأمر كذلك. ما معنى فشل عملية السلام إذا؟ جولة "رايس" الحالية، وإجتماعها مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون والأردن ومصر، يؤكد أن الموقف العربي من "عملية السلام"، ومن الإشراف الأميركي الحصري عليها لم يتغير. حسب صحيفة "الواشنطن بوست" قد يمثل هذا الاجتماع تأكيداً لتحالف جديد يهدف للمساعدة في استقرار المنطقة بعد حرب إسرائيل و"حزب الله" الأخيرة. والموقف الأميركي من العملية ذاتها لم يتغير أيضاً. وقد نقلت الصحيفة نفسها عن مصادر أميركية قولها بشكل خاص وغير علني بأن توقعاتها بحدوث تحركات جادة في المنطقة منخفضة جداً. بعبارة أخرى، الموقف العربي لم يتغير، والموقف الإسرائيلي لم يتغير، وكذلك الموقف الأميركي. ماذا يعني ذلك؟ شيء واحد، الواقع على الأرض يتغير، لكن سياسات الدول لا تستطيع الاستجابة، لأنها سياسات لم تتغير. "عملية السلام" في هذه الحالة لن تتحرك، والمنطقة مستمرة في إتجاهها إلى مزيد من التأزيم وعدم الاستقرار. حتى تتحرك "عملية السلام"، وتصبح عملية حقيقية تحتاج إلى تنازلات أميركية وإسرائيلية حقيقية. لكن إلى جانب أن الإستراتيجية الإسرائيلية ترفض أصلاً فكرة أي تنازل حقيقي، وأن الضعف العربي يغري إسرائيل بالتمسك بهذه الإستراتيجية، تبقى حكومة أولمرت الحالية أضعف الحكومات الإسرائيلية نتيجة لفشلها الذريع في حربها الأخيرة على لبنان. إدارة بوش من ناحيتها تعاني داخلياً من فشلها الذريع في العراق، وفشلها فيما تسميه بالحرب على الإرهاب، الأمر الذي أدى إلى تدهور شعبيتها، وتدهور شعبية الحزب الجمهوري معها. كل ذلك وهي مقبلة على انتخابات الكونجرس النصفية. إذن حتى مع افتراض إمكانية ذلك، لا أميركا ولا إسرائيل في ظروف تسمح لهما بتقديم أي تنازل لإنجاح ما يسميانه بـ"عملية السلام". هذا فضلا عن قناعة هذين الطرفين بأن الضعف العربي، واستعداد الدول العربية، وخاصة مصر والأردن، لمجاراة ومسايرة السياسة الأميركية، لا يجعل من التنازل أمراً ملحاً عليهما. الأرجح في هذه الحالة أن اجتماع العرب في القاهرة مع "رايس" لن يؤدي إلى شيء مهم. ربما تكون إدارة بوش هي المستفيد الأكبر من هذا الاجتماع، لأنه يعطي الانطباع بأنه رغم فشل هذه الإدارة في العراق وفلسطين ولبنان، إلا أن تحالفاتها وعلاقاتها في المنطقة لم تتأثر، وأن بروز قوى "التطرف" لم تؤثر على صورة المعادلة الإقليمية. هذا الانطباع مهم للإدارة في موسمها الانتخابي. أخيراً ذكرت بعض المصادر لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بأن الولايات المتحدة كانت ترى أن يتم الاجتماع في جدة، في السعودية. لكن مصر أصرت على أن يتم في القاهرة. وهكذا حصل. هل هذا مؤشر على خلافات أو اختلافات عربية- عربية قبل الاجتماع؟ كم كان من الأفضل لو أن إصرار مصر على التمسك بمقولة أنها "الدولة الأكبر، وأنها تحتل مركز القيادة في العالم العربي" يمتد أيضاً إلى إصرار على فكرة أن يكون دورها السياسي الإقليمي في حجمه وأهميته، وإنجازاته بما يتفق مع مركزها الذي تريده لنفسها، وهي تستحقه. حقيقة الأمر أنه كلما إزداد تمسك مصر بالسلام، كلما إزدادت الإعتداءات الإسرائيلية، والتعنت الإسرائيلي، وإزدادت جرأة إسرائيل على الحقوق العربية. وهذا يؤشر إلى سقوط نظرية مصر حول السلام، وهي النظرية التي بدأها الرئيس الراحل أنور السادات، وتابعها الرئيس الحالي، حسني مبارك. ومع ذلك سقط الدور الأميركي.