سنحت لي الفرصة مؤخراً أن أخاطب مجموعة من الطلبة الفرنسيين المنتسبين إلى مدرسة المناجم العريقة في فرنسا والمتخصصة في الدراسات الهندسية على هامش إحدى الزيارات التي قاموا بها إلى واشنطن. وبعدما شجعتهم على تدريس التكنولوجيا البيولوجية في المدارس الثانوية بفرنسا توقعت أن تنصب أسئلة الطلبة حول طرائق التدريس والمنهجية الأمثل لتلقين العلوم، لكني فوجئت بأحد الطلبة وهو يوجه سؤالاً صريحاً "كيف يمكنكم تدريس التكنولوجيا البيولوجية في هذا البلد وأنتم تمنعون تدريس نظرية التطور في مدارسكم؟" أردت أن أعترض على الحكم الذي أطلقه الطالب، لكني وجدته على حق فيما ذهب إليه، ذلك أن المدافعين عن نظرية الخلف في الولايات المتحدة يخوضون حرباً شعواء ضد تدريس العلوم كما يفهمها العلماء. فخلال السنة الماضية فقط شهدت أكثر من 15 ولاية أميركية محاولات دؤوبة لإدراج نظرية الخلف إلى جانب اللغة المتصلة بها في مناهج تدريس العلوم بالمدارس الثانوية حسب ما أورده المركز الوطني لتدريس العلوم. وقد خلصت مؤسسة مستقلة للتعليم بأن معايير تدريس العلوم المطبقة في عشر ولايات غير قادرة على معالجة نظرية التطور بطريقة علمية تفتح مدارك الطلبة على المنهج العلمي الصحيح. ومن خلال التعديلات التي تطال المناهج ومعايير التدريس تسعى الجهود المحمومة لتلك الجهات إلى التشكيك في نظرية التطور التي تعتبر حجر الأساس في علم البيولوجيا، والمحرك الرئيس لأي نقاش علمي رصين. ولسنا في حاجة إلى التأكيد بأن الاستمرار في تهميش نظرية التطور وإقصائها من ساحة النقاش العلمي قد يفضي في النهاية إلى القضاء تماماً على تطور المواهب العلمية في الولايات المتحدة، وإضعاف القدرة التنافسية الأميركية في المجال العلمي التي تعتبر ضرورية لازدهار الاقتصاد القائم على المعرفة والبحث العلمي. ففي الولايات المتحدة يعاني طلبة الثانوية العامة من تأخر في الرياضيات مقارنة مع الطلبة في باقي الدول المتقدمة، كما أن الطلبة في السنة الأخيرة من الثانوية العامة تراجع مستواهم في العلوم قياساً بما كانوا عليه قبل عشر سنوات. وما من شك أن حالة الطلبة الأميركيين ستسوء أكثر إذا تعودوا الطعن في نظرية التطور والتشكيك في مضمونها. فحسب هيئة الجامعات الأميركية 37% من المدارس الثانوية الأميركية تنظم امتحانات متقدمة لاختبار مهارات الطلبة في البيولوجيا، وهي الامتحانات التي تحدد مستوياتهم في الجامعة وتقرر في مستقبلهم العلمي. وبتركيزنا على تلقين نظرية الخلق وكل المفردات الدينية المتصلة بها في المدارس الثانوية الأميركية، وبإمعاننا في إضعاف الروح العلمية والمس بها نكون بصدد النيل من فرصنا المستقبلية للتوصل إلى إنجازات علمية جديدة، ونكون أيضاً بصدد تهديد سلامتنا وصحتنا وتقدمنا الاقتصادي. والسبب واضح لا يحتاج إلى تفصيل يتمثل في حرماننا من القدرات العلمية الفذة التي يحتاجها عالمنا المعاصر لمعالجة الأمراض المستعصية، واجتراح الحلول المبتكرة لأزماتنا الراهنة. ولا يعني ذلك أن العلم في حرب ضد الدين، فقد عاش الاثنان في سلام ووئام طيلة قرون من الزمن. ولسنا أيضاً بصدد صراع بين مؤمنين وماديين ملحدين، حيث يمارس العديد من المؤمنين العلم ويستلهمون من الإيمان قدرتهم على التميز العلمي وابتكار الجديد. إنها حرب بين التزمت الديني المتدثر برداء العلم، وبين البحث الجريء الذي يروم فهم العالم واستكناه الطبيعة. ولعل السبب وراء اعتماد نظرية الخلق في المدارس الثانوية يرجع إلى السهولة التي تنطوي عليها، والجاذبية الروحية التي تمارسها على الآخرين. فمن السهل مثلا اختصار الطريق وتجنب الدخول في تفسير مطول حول كيفية تطور العين واتخاذها لشكلها الحالي إلى الاكتفاء بالقول بأنها من عند الخالق دون إيراد التفاصيل العلمية. وإذا كان التحليل الديني يروي ظمأنا الروحي ويقدم الإجابات الجاهزة، إلا أنه قطعاً لا يخول الطلبة البحث والتنقيب دون رقابة، أو وصاية. فالوقوف في وجه نظرية التطور والحؤول دون تدريسها في المعاهد الحكومية والمدارس الثانوية يحرمنا جيلاً جديداً من العلماء والقدرات الفذة في مجال البحث والاكتشاف. ويبدو الأمر وكأننا نمنع طالبة تبلغ 14 سنة من اكتشاف لقاح فعال ضد مرض عضال في المستقبل بسبب حرمانها من دراسة نظرية التطور والارتقاء في المدرسة الثانوية. ويمكن أن يسري مثال الطالبة تلك على الآلاف من الطلبة في بعض الولايات كجورجيا وكنساس وأوهايو التي تحظر تدريس نظرية التطور. ويمنحنا التقرير الذي أصدرته اللجنة الأكاديمية الوطنية حول ازدهار الاقتصاد العالمي في السنة الماضية نظرة دالة نحو المستقبل. فقد أظهر التقرير بأنه من بين براءات الاختراع التي ترد إلى الوكالة الأميركية للاختراع مازالت الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى بين دول العالم، لكن التقرير أشار أيضاً إلى أنه ما بين 1989 و2001 شهدت فيه الدول الصاعدة مثل الصين والهند ارتفاعاً في معدل البراءات المقدمة مقارنة مع السنوات الماضية يفوق معدل الزيادة في الولايات المتحدة، منذراً بتراجع قدرتها العلمية في العقود المقبلة. والنتيجة أن اقتصاد تلك الدول القائم على الابتكار والمعرفة سيستمر في النمو ليلحق بالاقتصاد الأميركي. وإذا كان لا بد من احترام جميع الآراء حتى وإن لم تكن مبنية على أساس علمي، إلا أنه علينا التسلح بمعرفة علمية صلبة حتى ننجح في محاربة الإيدز ومواجهة تحدي الحرب البيولوجية والأمراض الفتاكة، ولكي نكتشف الأدوية المنقذة لحياة الإنسان والمعالجة لأمراضه. بول هانل رئيس معهد "التكنولوجيا البيولوجية" الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"