إلى أي حد تهم أحداث الصومال ودارفور شعوب المنطقة العربية، وهي متناثرة بعيداً عن "موقع الحدث" إلى حد ما، بأكبر أو أقل، مما تقلق الشعوب أو الحكومات الأفريقية المجاورة للبلدين؟ كادت الأحداث في فترة سابقة أن تجيب بالنفي في الحالتين نتيجة كون القلق داخلياً أساساً رغم الاهتمام الخارجي الظاهر. فالسودان كان قلقاً على الجنوب ومدى استقرار الحكم إزاء المواجهة العسكرية هناك، ثم كان قلقاً على غرب السودان، إزاء الخوف على الثروة والنفوذ السياسي معاً. أما الصومال، فقد بدا لأكثر من عقد من الزمان غير مقلق أساساً بسبب "الاستقرار" على صورة التفتت وحكم "لوردات الحرب" وسكوت الخارج عنه. لكن الموقف في البلدين أصبح يزداد سوءاً، وبدأت ردود الفعل على المستوى الإقليمي ثم الدولي، تعبر عن عمق القلق على المستويين. وقد بدأ السيناريو في دارفور يتخذ مساراً خطيراً يشابه في الوقت نفسه مخاطر المسار الصومالي، وبدأ البلدان عرضة لتدخل خارجي مباشر تذكر أحياناً بافتعال الأسباب على نحو ما تم في العراق، أو تذكر بغطرسة أميركية شبيهة بما تم تجاه لبنان، بما يجعل البلدين عرضة لضربات دونها قدرة شعوبهما على التحمل، حتى بالمقارنة مع تحمل ثروة العراق، أو ديمقراطية لبنان لما أصاب أو يصيب، هذين البلدين. فكيف تطور الموقف تجاه السودان ليصبح "دولياً" بهذا الشكل، كما يتطور الموقف في الصومال؟ وقد كاد الموقف في السودان يستقر عند اتفاق "أبوجا" الذي طرح إمكانيات داخلية للحل بمشاركة معظم الأطراف في الحوار على الأقل-ما لم يكن في التوقيع- وبحضور الجنوبيين والدول المجاورة. بل وببعض الرضا من المشرف الأميركي وحوارييه أوروبيين وأفريقيين، وإذا بالموقف ينقلب رأساً على عقب! تخرج أطراف داخلية على الاتفاق، وتتصاعد أعمال عسكرية، كما تتصاعد بيانات المنظمات الإنسانية بالاستغاثة قلقاً على اللاجئين والمهجرين، ويتفجر التحالف الداخلي مع الجنوبيين، وتتردى العلاقة مع أريتريا، وتعجز الاتصالات الليبية أو المصرية عن أي دور، كما ينسحب الاتحاد الأفريقي بشكل مخزٍ. وهنا تتصاعد الصيحات العسكرية في الخرطوم، وقد سلبت من السياسيين أو الدبلوماسية أي دور، وكأنها تملك ترسانة من السلاح، مما لا يعلم بها أحد، دون إخفاء الإشارة المباشرة للنموذج اللبناني! ويلمح البعض أن ذلك نفسه قد أدى إلى نوع من التهدئة لا نعرف لها تفسيراً على صعيد التعامل الدولي- الأميركي مع الموقف، رغم استمرار التصريحات المهددة بالعنف، ومؤخراً يلعب الدورالأوروبي لعبة المهدئ لبعض الوقت. وشيء شبيه بذلك يحدث في الصومال، فرغم تصاعد الموقف بتقدم نظام "اتحاد المحاكم الإسلامية" واستيلائه على مقديشو- العاصمة الرسمية- وبروز العنصر العسكري- بأكثر من السياسي أو الإسلامي- على سطح الأحداث لفترة، فقد جاء اجتماع الخرطوم في أغسطس الماضي، وكأنه يلم الموقف ويضعه مثل شبيهه في "أبوجا" مبشراً بحلٍ توافقي قابل للتهدئة، حيث اتفق هناك على تكوين قوات عسكرية مشتركة وكذلك الشرطة ووقف الهجوم الإعلامي المتبادل... إلخ، حتى يعودا للاجتماع في الخرطوم أوائل أكتوبر 2006. لكن العسكرية الصومالية التي ينفرط عقدها في "بيداوا" نتيجة قرار الوزراء العسكريين من حكومة "غيدي"، تقوى في مقديشو إلى حد الزحف على الميناء المهم الثاني في الصومال، وهو "كسيمايو"، رغم الادعاء أنه "خيار شعبي" وليس عملاً عسكرياً. لكن الحدث يكشف عن تحالفات عسكرية مع قادة المنطقة المنشقين على "بيداوا" بمن فيهم وزير دفاع سابق. وبينما يكشف الموقف في دارفور عن قوة "العامل الخارجي"، وفق سياسة الولايات المتحدة في معالجة أمر هذه المنطقة في ظروف وضعها في الشرق الأوسط ككل، يظل الموقف في الصومال متوقفاً عند "العامل الإقليمي"، يقابله قلق إثيوبيا وكينيا من التطورات الصومالية. ورغم أن هذا العامل الإقليمي لا يبعد عن أعين السياسة الأميركية بل وحالة الشرق الأوسط في مجملها لأن القرن الأفريقي الكبير لا ينفصل كثيراً عن الشرق الأوسط الجديد والقديم على السواء، بل ولا يبعد عن مشروعات "القيادة الأميركية"، وقواتها الخاصة المقترحة لأفريقيا مؤخراً. قد يرى المراقب أن الحالة في دارفور تبدو أكثر خطورة نتيجة سلاح التدخل الأميركي المباشر الذي تعلنه طول الوقت الدكتورة "كوندوليزا رايس" باسم "الشرعية الدولية"، ولكن العوامل الداخلية والإقليمية قد تساعد رغم ذلك في الوصول إلى مخرج في السودان نتيجة الخوف على الجنوب وعلى البترول وحتى على بضعة آلاف من الأوروبيين في "المنظمات الإنسانية"، وذوي التأثير الانتخابي الخاص في أميركا. وما زال لدى الولايات المتحدة الأميركية ورقة "قوات الاتحاد الأفريقي" تمد وجودهم إلى القوات الموجودة في جنوب السودان ليكتمل رقم عشرين ألفا المقررة في القرار 1706! والمهم لدى الولايات المتحدة أن تبقى قوات عسكرية "أجنبية" في السودان بأي صفة وبقدر من التنازلات، تتيحها إمكانية إعادة قراءة القرار الدولي وتفكيكه بشأن "التفويضات" المقررة داخله لـ"القوات الدولية" (عسكر وشرطة ومحققين ومراقبة حدود إقليمية... إلخ). هنا قد يهدأ العسكريون وجماهيرهم الصاخبة، ويبقى العمل الداخلي في الجنوب ولدى القوى السياسية المتصارعة في الخرطوم على المحك، لتقرير مصير النظام نفسه. أما في الصومال، فعلى بساطة الواقع الصومالي، فإنه يظل أكثر تعقيداً، فرغم وجود قوات أميركية وفرنسية وألمانية في محيط الصومال، في جيبوتي والمحيط الهندي، فإن هذه القوات لا تجد أي مبرر للتدخل إزاء تطور داخلي مثل الذي حدث في مقديشو، وهي التي لم تتدخل مع أحداث كبيرة مثل انفصال "أرض الصومال" أو "بونت" أو "وادي جوبا". كما أن عسكرة "ضاهر عويس" لاتحاد المحاكم ليست أكثر من عسكر "بيداوا" أنفسهم، لكن أطماع إثيوبيا ومخاوف كينيا هي التي تهدد بخطر صراع إقليمي وديني لا يوجد بهذا الحجم في السودان. وتملك حكومة المحاكم الشرعية إمكانيات الإقلاق بانتشار شعبيتها في الجنوب مع العناصر "الأفريقية" الممتدة إلى شمال كينيا، وفي غرب الصومال بامتدادها الإسلامي في "الأوجادين" شرق إثيوبيا، تملك إمكانية إثارة القلاقل أمام مشروع القرن الأفريقي الكبير بأكثر مما تتهدد السودان مشروع الشرق الأوسط. ومراقبة الاقترابات العسكرية لأوغندا مع "بيداوا"، وإريتريا مع "المحاكم الإسلامية"، تثير الدهشة بقدر ما تدعم كثيراً من التوقعات السياسية الأميركية التي تتجاهل الموقف العربي في السودان معتمدة على البعد الأفريقي وحده ومعالجته في إطار الاتحاد الأفريقي ومنظمة "الإيجاد"، بل والعمل على نفي السودان أفريقياً بسوء صورته وسلخه عربياً لضعف السياسة العربية، وفي المقابل هي لا تستطيع أن تترك الصومال دون التعاون مع الموقف العربي، خوفاً من قلاقل على المحيط الهندي- بعد تهدئة اليمن- تدفع إليها السياسة الإقليمية لإثيوبيا وكينيا. وقد دفع البلدان بالفعل الاتحاد الأفريقي لقرار التدخل في الصومال دون أن يمتلك أي قدرات لوجستية أو مالية، كما أن هناك تصريح رئيس وزراء "بيداوا" لطلب القوات الإثيوبية إذا زحفت قوات "اتحاد المحاكم" لأكثر مما هي عليه. وأظن أن بعثات من الجامعة العربية في المنطقة- في حدود توقعي- قد تكون على علم بهذه المخاطر، وهذه الأبعاد التي تجعل من جهد حقيقي في لقاء الصوماليين بالخرطوم أوائل أكتوبر- لو تحقق- فرصة قد لا تتكرر.