تشهد الأوساط الطبية منذ فترة جدلاً نظرياً واختلافاً علمياً، حول العلاقة بين السمنة وبين الوفاة المبكرة، وبالتحديد حول ما إذا كانت العلاقة بين السمنة والوفيات المبكرة هي علاقة مباشرة أم علاقة غير مباشرة. وكانت شرارة بدء هذا الجدل قد انطلقت في ربيع العام الماضي، عندما أعلن علماء مركز مكافحة الأمراض بالولايات المتحدة، (Center for Disease Control & Prevention)، أن خطر الإصابة بالأمراض والوفيات المبكرة بسبب السمنة المفرطة، هو أقل حجماً بكثير مما يعتقد الأطباء حالياً. وأضاف علماء المركز، بأن الوزن الزائد بدرجة معتدلة، لا يترافق مع زيادة مماثلة في احتمالات الوفاة المبكرة. وغني عن الشرح هنا، بأن هذه النتائج تتعارض وتتصادم رأساً برأس مع الحكمة الطبية العامة، التي تنص على أن الوزن الزائد، وخصوصاً السمنة المفرطة، سبب مباشر ورئيسي للإصابة بطائفة واسعة من العلل والأمراض، ومتهم أساسي خلف الوفيات المبكرة. وفي ظل عاصفة من الانتقادات الواسعة لتقرير "مركز مكافحة الأمراض"، قام علماء كلية الصحة العامة بجامعة "هارفارد" بتحليل بيانات الدراسة نفسها، ليخرجوا بنتائج مختلفة تماماً، تؤكد الارتباط الوثيق بين السمنة والأمراض والوفيات المبكرة. وليت القضية انتهت عند هذا الحد، بل استمر الارتباك العلمي والتشوش الطبي إلى يومنا هذا. ففي الشهر الماضي نُشرت نتائج دراستين أخريين، زادتا الموقف تعقيداً. في الدراسة الأولى، والصادرة عن مستشفى "مايو كلينيك" الشهير، اكتشف الباحثون أن الأسلوب الشائع لقياس درجة السمنة، لا يمكن الاعتماد عليه في التنبؤ باحتمالات الإصابة بأمراض القلب. هذا الأسلوب، والمعروف بمؤشر كتلة الجسد (Body Mass Index)، يقيس النسبة بين الطول والوزن. ويمكن حسب هذا المؤشر تقسيم أفراد الجنس البشري إلى أربعة أقسام:1- قسم الوزن المنخفض 2- قسم الوزن الطبيعي 3- قسم الوزن الزائد 4- قسم السمنة المفرطة. وكان الاعتقاد الشائع سابقاً، أن زيادة نسبة هذا المؤشر، تؤدي إلى زيادة مماثلة في الوفيات الناتجة عن أمراض القلب. ولكن بتحليل نتائج أربعين دراسة سابقة، شملت 250 ألف مريض، اكتشف أطباء مستشفى "مايو كلينيك" أن الأشخاص ذوي المؤشر المنخفض، تعرضوا لأكبر نسبة من الوفيات بسبب أمراض القلب وغيرها من الأمراض. بينما تمتع الأفراد ذوو الوزن الزائد– وليس المصابين بالسمنة المفرطة- بنسبة أقل من الوفيات من الأسباب المختلفة، مقارنة بالأشخاص الذين كان مؤشر وزنهم ضمن الحدود الطبيعية. هذه النتائج المتناقضة أو المتفارقة، لا تعني أن الوزن الزائد مفيد لصحة القلب، وإنما تعني فقط أن الأسلوب المعتمد على مؤشر كتلة الجسد للتنبؤ باحتمالات الإصابة بأمراض القلب، هو أسلوب غير دقيق. وهو ما يتطلب بالضرورة، البحث عن مؤشر آخر، يعكس العلاقة بين درجة زيادة الوزن والسمنة وبين احتمالات الإصابة بأمراض القلب. أما الدراسة الأخرى، والتي استغرقت عشر سنوات، ونُشرت نتائجها الشهر الماضي أيضاً، كانت قد صدرت عن واحد من أكبر مراكز الأبحاث الدولية في مجال الأمراض السرطانية، هو المعهد الوطني للسرطان بالولايات المتحدة (National Cancer Institute)، وأظهرت أن زيادة الوزن والسمنة، وخصوصاً في متوسط العمر، تعتبران عاملي خطر مهمين خلف الوفيات المبكرة. ففي العقد الخامس من العمر، تؤدي زيادة الوزن الطفيفة إلى زيادة نسبة الوفيات بنسبة تتراوح ما بين 20% إلى 40%، بينما تؤدي السمنة المفرطة في نفس الفئة العمرية إلى زيادة هذه النسبة بمقدار ضعفين أو ثلاثة أضعاف. وهي النتائج التي تتفق تماماً مع تحليل علماء جامعة "هارفارد"، وتتعارض مباشرة مع نتائج علماء "مركز التحكم في الأمراض". كما قام فريقان من العلماء بالولايات المتحدة هذا الأسبوع، بنشر نتائج دراسة مشتركة، أظهرا فيها أن زيادة الوزن والسمنة تؤديان لزيادة احتمالات الوفيات المبكرة، ولكن فقط في الأشخاص المصابين بداء السكري. حيث أثبتت الدراسة، أن الأشخاص المصابين بداء السكري، معرضون بمقدار ثلاثة أضعاف للإصابة بأمراض خطيرة تهدد حياتهم، وبالتالي أيضاً للوفاة المبكرة. بينما يتمتع الأشخاص زائدو الوزن- إذا لم يكونوا مصابين بالسكري- بنفس نسبة تعرض الأصحاء ذوي الوزن الطبيعي لتلك الأمراض. وهو ما يعني أن السمنة تقتل، ولكن ليس مباشرة، وإنما عبر تسببها في الإصابة بالسكري. فالمعروف أن الوزن الزائد والسمنة، هما سببان مباشران للإصابة بداء السكري. حيث تقدر الجمعية الأميركية للسكري (American Diabetes Association)، أن من بين كل عشرة أشخاص يتم تشخيص إصابتهم بالسكري للمرة الأولى، يكون تسعة منهم زائدي الوزن أو من المصابين بالسمنة المفرطة. والخلاصة هي أن السمنة تقتل، ربما بشكل مباشر، وإنْ كان من الأكيد أنها تقتل بشكل غير مباشر، من خلال زيادة احتمالات الإصابة بداء السكري، وما ينتج عنه من مضاعفات خطيرة. ويرجح البعض أن السمنة تقتل أيضاً من خلال طرق أخرى غير السكري، مثل زيادة احتمالات الإصابة بأمراض القلب والأمراض السرطانية، وغيرهما. ولذا، على الرغم من أن العلاج الدوائي الفعال لبعض مضاعفات السمنة، مثل خفض مستوى الكوليسترول في الدم، وخفض ضغط الدم، وضبط مستوى السكر، يؤدي إلى التقليل من وقع هذه الآثار السلبية للسمنة على الجسم. إلا أن فقدان تلك الكيلوجرامات الزائدة من الشحوم الجسدية، لا يعين فقط على تجنب مضاعفات الأمراض الناتجة عن السمنة، بل يقي أيضا ضد الإصابة بها من الأساس.