تعرضت ظاهرة الإرهاب في هذا العام لتشريح درامي تجاوز السنوات الماضية من ناحية كميته ومن ناحية نوعيته، فعدد غير قليل من المسلسلات الدرامية تطرقت بالنقد لهذه الظاهرة، إما بشكل مباشرة أو غير مباشر. كان من أكثر ما أثار الضجة هذا العام عملان كان لي شرف المساهمة فيهما، هما مسلسل "دعاة على أبواب جهنم" الذي تعرضه "قناة أبوظبي"، ومسلسل "طاش ما طاش" الذي تعرضه قناة "إم بي سي". في مسلسل "دعاة على أبواب جهنم"، حاولنا أخذ الصورة من جوانب متنوعة وفي بلدان مختلفة، وحرصنا على تنوّع الشخصيات وتمييز التوجهات الدينية عن بعضها البعض، يساعدنا على ذلك طول وقت المسلسل الذي يمتد لثلاثين حلقة، كما يساعدنا تنقّل المسلسل بين عواصم عربية وأجنبية مختلفة، فما لا تستطيع الحديث عنه في الرياض تضعه في لندن، وما لا تستطيع الحديث عنه في عمّان تضعه في موسكو، مع حرص على تسلسل الأحداث وترابطها، وإظهار تعقيد الشخصيات داخل العمل، ومقاربة الواقع من خلال الكلمة والصورة والصوت. أما في حلقة "إرهاب أكاديمي" في مسلسل طاش ما طاش، فقد كان الوضع مختلفاً شيئا ما، فالمسلسل طبيعته كوميدية، هذا من جهة، ثم إن مدته الزمنية لا تتجاوز النصف ساعة مما يجبرك على ضغط فكرة واحدة لا تكفي لتغطية المشهد كاملا لكنها تتناوله من زاوية واحدة، كما أن المساحة الجغرافية التي يتحرك فيها المسلسل ضيقة أيضاً. تباينت ردود الفعل تجاه العملين، على أن أغلب ما وصلني منها شخصياً كان إيجابياً، ويثني بشكل عام مع تحفظه على نقطة هنا أو جزئية هناك، مع بعض الرسائل الإلكترونية التي كانت معارضة للعملين أو لأحدهما، والتي استخدم أصحابها لغة بذيئة لا تليق بعقلاء الرجال الذين تربّوا في أسرٍ كريمة. والمفارقة أن إحدى الرسائل بلغ الشتم فيها إلى مخالفة معلوم من الدين بالضرورة، ثم ختمها صاحبها بأنه سيلجأ للدعاء على كاتب هذه السطور في ليالي رمضان المباركة! استعذت بالله من كل دعاء جاهل، وسألته الهداية لي ولمرسل المقال، ولكن أمارات الدهشة لم تفارق ذهني، والسؤال الذي يلحّ عليّ هو كيف يمكن لفردٍ ما أن يطرح نفسه على أنه متدين ومتقيد بتعاليم الدين، ثم يستخدم أقذع الألفاظ المحرّمة بشدّة دينياً والتي عدّها العلماء من كبائر الذنوب؟ في رحلة البحث عن إجابة مقنعة مررت ببعض التأملات، فالباحث حين ينتقد بشراً غير معصومين، سابقين أو معاصرين، فإن ذلك أمرٌ مشروع دون شك، ولكن حين ينتقد الله تعالى أو القرآن الكريم أو الرسول صلى الله عليه وسلّم فإنه يكون قد وقع حينها في المحذور، لأنه بذلك يمسّ المقدّس الحقيقي في حياة المسلمين ويجرح عقيدتهم في الصميم. لكنه حين ينتقد بشراً غير معصومين وممارسات بشرية خاطئة، ثم يواجه بحملة شرسة تزعم أنه انتهك مقدساً وجاء بمنكر من القول وزوراً، فإن ثمة خللا يجب رصده وتحليله إما في الناقد أو في المتلقي أو في قائد الحملة المضادة ومنسقها والمنخرط بلا وعي فيها. الاستهزاء بالدين محرّم ومجرّم دينياً، ولكن حين يعتبر نقدك لفئة من البشر استهزاءً بالدين نفسه، فنحن أمام خيارين، إما أننا نؤله هذه الفئة من البشر هي أو نضعها في مستوى الرسول أو الدين نفسه، وهذا يعني تقديسها ورفعها لمصافّ الألوهية، وإما أن النقد ليس استهزاءً بالدين، وإنما جعله البعض كذلك لحاجة في نفس يعقوب، مع التأكيد على أن ادعاء الأُلوهية أعظم جرماً وأجل خطراً من الاستهزاء بالدين، وادعاء الألوهية ليس بلسان المقال فحسب بل يمكن أن يكون بلسان الحال أيضاً. "الإسلاميون" أو "المتدينون" أو "الملتزمون"، سمّهم ما شئت، هؤلاء يمثلون شريحة عريضة في المجتمع وهم أطياف متعددة ومدارس متبانية، يصل تباينها حدّ التناحر أحياناً والشواهد كثيرة، وهذه الشريحة بكافة أطيافها تعوّدت بناء على عرف اجتماعي لا نص ديني، على أن تكون هي الموجهة لبوصلة المجتمع، الناقدة لانحرافاته، تطرح نفسها كرقيب خبير وناصح بصير، ولم تعتد هذه الشريحة أن تصبح هي محل النقد أو موضع التشريح والمراقبة والتوجيه، وخصوصاً حين يكون النقد من خارجها لا من داخلها، لذلك فهي تستفزّ وتغضب حين يتمّ نقدها أو التعرض لها بالتشريح والقراءة والتحليل، فلا تجد لنفسها ملجأً إلا الاحتماء بالدين والتماهي معه، في محاولة لإلقاء عباءة القداسة على مواقفها وأعمالها وشخوصها ومؤسساتها، اتقاء للنقد وفراراً من التصحيح. أحسب أن من دلائل صحة المجتمعات أن يكون فيها حراك فكري وثقافي واجتماعي وسياسي، فالحراك بطبيعته يولّد التفاعل والاختلافات وتباين الرؤى، وهذه بداية مهمة لاستيقاظ الوعي وإعادة رسم خريطة طريق لتنمية صحيحة ومجتمعات فاعلة ومنتجة، وما نشهده اليوم من صراعات هنا، وحملات متبادلة هناك، دليل على أن المجتمع بدأ في الحراك والاستيقاظ، وهو في طريقه لتطليق الثبات البليد والجمود القاتل، وهذه المسلسلات الدرامية جزء من المشهد العام الذي يشهد هذا الحراك، وهي دعامة مهمة من دعامات الاستيقاظ، لأنها بحكم طبيعتها والشرائح التي تخاطبها تصل لعدد أكبر من المتابعين والمشاهدين، وتوصل لهم الأفكار، وتشرح لهم الخلافات والخلفيات العميقة للظواهر المهمة والمشكلات الكبرى التي يستعصي شرحها عادة على عامة الناس. إن مشكلة بعض منتقدي هذه المسلسلات معها، هي مشكلة ذات خلفيات أبعد، فهم مثلاً يحرمون التصوير بكافة أشكاله ويجرمون المجتمع بكافة شرائحه وتسيطر عليهم النظرة المتشائمة وسيئة الظن لكل من يعمل خارج نطاقهم أو بعيداً عن وصايتهم. فهم يتوهمون خطأ أنهم أوصياء الله على خلقه، فهم وحدهم من حقهم رصد الخلل في المجتمع والاقتصاد والسياسة والأنظمة الداخلية والقضائية وسلوكيات الأفراد، بل وضمائر الخلق وهذا الوهم لم يزل يتضخم حتى أصبحوا يعتقدون أن "النقد والإصلاح" مستعمرة خاصة بهم، فلا نقد إلا منا وبنا، ولا إصلاح إلا عن طريقنا، لذلك فإنهم أو كثير منهم على الأقل شعروا بمنافسة كبيرة من مثل هذه المسلسلات الناجحة، أورثتهم غيرة غير محمودة من نجاحها وامتلاكها لأدوات التأثير في فكر وسلوك وحركة المجتمع، فحاربوها لا لأنها أخطر الموجود بل لأنها تعدت على ما توهموه مستعمرة لهم وحدهم، وتجرأت على التعرض لهم بالنقد والتقويم والمراجعة والتحليل. ستظل الحرب على الإرهاب مفتوحة، ولواء مقارعة مشوهي الإسلام من أبنائه معقوداً، ترفعه أيادي كل حريص على دينه معتز بوطنه ساعٍ إلى نشر الخير والحق، ودعم السلم والتنمية.