بلغت واشنطن في الأسبوع الماضي مستويات غير مسبوقة من العبث في ممارسة رياضتها الأثيرة والمتمثلة في لعبة الأسرار. فقد أتيح للأميركيين مشاهدة عرض جديد شاركت فيه إدارة مهووسة باللعب بالأسرار وتوظيفها لمصلحتها كالإفراج عن جزء مهم من إحدى الوثائق السرية الحساسة التي أعدتها وكالة الاستخبارات المركزية ووكالات استخباراتية أخرى. فالرئيس بوش أمر بما يمكن أن نطلق عليه إفراجاً انتقائياً عن بعض التسريبات التي طالت تقرير "الاستخبارات الوطنية" حول الإرهاب العالمي في الصحف الأميركية. وقد استنتجت تلك الصحف من التسريبات أن التقرير يتحدث عن الدور المحتمل لحرب العراق في تعاظم الإرهاب وزيادة الأخطار على أمن الولايات المتحدة. وبالطبع يقف هذا الاستنتاج على النقيض من تصريحات بوش السابقة قبل الحرب التي عاد لتأكيدها مجدداً في خطاب تلفزيوني ألقاه بتاريخ 11 سبتمبر الجاري قائلاً إن "نظام صدام حسين كان يمثل خطراً واضحاً...وقد أصبح العالم أكثر أمنا لأن صدام حسين لم يعد موجودا في السلطة". لذا ليس غريبا أن يبدو الرئيس بوش متضايقاً من التسريبات ويشعر بضرورة مواجهتها بطريقة من الطرق. فما كان منه إلا أن أمر بالإفراج عن "الخلاصة الأساسية" التي خرج بها تقرير الاستخبارات الوطنية تفاديا لأي تأويل مغرض. لكن التقرير أشار فعلا إلى أن الحرب في العراق "بصدد تشكيل جيل جديد من الإرهابيين ... متسببة في زيادة استياء المسلمين من الولايات المتحدة وخلق مؤيدين لحركة الجهاد العالمي". وأفاد التقرير أيضاً بأن جهود الإدارة الأميركية في مجال مكافحة الإرهاب ألحقت "ضرراً كبيرا بالقاعدة"، وبأنه إذا ما فشل الإرهابيون في العراق فإن "القليل من المقاتلين سيستلهمون تجربتهم". ولا شك أن تلك هي اللغة التي كان بوش يحتاجها لمواجهة الاستنتاجات التي خرجت بها الصحافة بعد قراءتها لأجزاء من التقرير وتقول بأن الحرب في العراق فرخت المزيد من الإرهابيين. وفي مؤتمر صحفي عقده بوش في أعقاب التسريبات لفت الانتباه إلى أن توقيت ظهور أجزاء من التقرير على "الصفحات الأولى للجرائد" جاء في وقت تستعد فيه البلاد لإجراء انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، موضحاً "هناك شخص ما عمد إلى تسريب التقرير لأغراض سياسية". ومهما تكن هوية الشخص المسؤول عن التسريب فليس مستبعدا أن يكون الغرض سياسياً كإضعاف إدارة بوش قبل انتخابات الكونجرس. وربما يعمل الشخص، أو الأشخاص الذين سربوا المعلومات داخل أجهزة الاستخبارات، أو في مواقع أخرى حكومية قرروا فعل ذلك بسبب خيبة أملهم من اللازمة التي لا تكف إدارة بوش عن ترديدها حول الحرب في العراق ودورها في الحفاظ على أمن الولايات المتحدة، رغم الدلائل التي تذهب عكس ذلك. لكن بصرف النظر عن الدوافع التي قادت بعض الأشخاص إلى تسريب المعلومات، يتضح أن بوش نفسه أقدم على الإفراج عما أسماه "بالخلاصة الأساسية" للتقرير لتسجيل نقاط سياسية لا أكثر. وهو الرئيس نفسه الذي هددت إدارته في السابق بملاحقة أي صحفي يقوم بتسريب معلومات تعتبر سرية. فعندما كشف "جيمس روزن"، مراسل "نيويورك تايمز"، عن برنامج التنصت على المكالمات الذي تبنته الإدارة دون إذن قضائي، رفعت وزارة العدل قضية ضده. وعندما كشفت "دانا بريست" من "واشنطن بوست" قيام وكالة الاستخبارات المركزية باستجواب المشتبه فيهم داخل سجون سرية بأوروبا الشرقية، دعا نواب الكونجرس "الجمهوريون" إلى التحقيق في مسألة التسريب. لكن في مطلع الشهر الجاري، أعلن الرئيس بوش عن نقل 14 من المشتبه فيهم الذين كانوا محتجزين في سجون سرية إلى معتقل جوانتانامو بكوبا بعدما أدرك أن ذلك يخدم المصلحة السياسة لإدارته. وأكثر من ذلك أفرج جون نيجروبونتي، مدير الاستخبارات الوطنية عن السير الذاتية لكبار المشتبه فيهم من تنظيم "القاعدة"، فضلاً عن صورهم بمن فيهم خالد شيخ محمد، العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر. هذا ولم يكن قرار بوش الأسبوع الماضي بالإفراج عن أجزاء من تقرير الاستخبارات الوطنية حول الإرهاب العالمي المرة الأولى التي تلجأ فيها إدارته للكشف عن أسرار لأغراض سياسية، بل سبق وأن قامت بذلك كثيرا في الماضي. فقد نشرت إدارة بوش سنة 2003 نتائج تقرير الاستخبارات الوطنية حول العراق لتبرير غزوه فقط ليتبين لاحقا أنه لا وجود لأسلحة الدمار الشامل التي قال التقرير بأن العراق يمتلكها. ديفيد وايز كاتب أميركي متخصص في الشؤون الاستخباراتية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"