قُتل أكثر من 40000 مدني عراقي منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وقد ارتفعت وتيرة سقوط قتلى من المدنيين في الأشهر الأخيرة. كما أن عدة آلاف من العراقيين الأبرياء اعتقلوا، وبعضهم عُذب من قبل القوات الأميركية. والعديد منهم تعرض للتنكيل أو القتل على يد الشرطة العراقية. أما الخدمات الأساسية، فتكاد تكون منعدمة في أجزاء كبيرة من البلاد منذ ثلاث سنوات. والحرب الأهلية تتربص بالبلاد، ما يعيد إلى الأذهان ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 16 سنة وقُتل خلالها أكثر من 100000 شخص من أصل سكان البلاد الذين لم يكن يتجاوز عددهم آنذاك 4 ملايين نسمة. والحال أنه إذا تمكنت الأمم المتحدة من تسيير الأمور على طريقتها، فمن المرجح ألا يكون الفشل في العراق سوى الأول في سلسلة من الحروب المماثلة، وذلك بفعل تأثير جُهد حَسن النية وسيئ التدبير لجعل التدخل الإنساني إجباريا من ناحية القانون الدولي. اليوم العراق، وغداً دارفور. الواقع أن المدنيين يعانون في جميع الحروب، غير أن معاناة المدنيين العراقيين في هذه الحرب سيئ على نحو خاص، لأن واحداً من أهم المبررات التي سيقت للترويج لهذه الحرب كان المبرر الإنساني، ألا وهو إنقاذ العراقيين من طاغية مستبد. بالطبع كانت ثمة مبررات أخرى– من بينها فكرة أن من شأن إرساء الديمقراطية بالعراق تحسين أمن أميركا بعيد المدى- غير أن المبرر الإنساني حظي بقبول الكثيرين ممن رفضوا المبررات الأخرى، ومنهم النخب الليبرالية وبعض "المحافظين"؛ كما ساعد على تعبئة الرأي العام وراء الحرب. والحال أن الأحداث لم تخدم المبرر الإنساني جيداً. الواقع أن فكرة أن يكون للحرب مبرر إنساني وآخر مرتبط بالأمن القومي لها تاريخٌ طويل. ذلك أن بعضاً من أسوأ فظاعات القرن العشرين ارتُكبت في دول ضعيفة، لم تستطع حكوماتها مقاومة الغزو العسكري الأجنبي. إذ تم وقف حرب الإبادة في رواندا، التي قُتل فيها أكثر من 800000 شخص في بضعة أشهر، بواسطة قوة من المتمردين المنتمين إلى قبائل "التوتسي"؛ والأكيد أن جيشاً غربياً كان بإمكانه أن يوقفها في وقت أقصر. ونتيجة لذلك، فإذا كانت الدول تستطيع التدخل بكلفة قليلة بنفسها نظراً لضعف الدول المستهدفة، وبعملها ذلك، تمنع حدوث معاناة إنسانية كبرى، فالأكيد أنه من واجبها القيام بذلك. غير أن المنطق ليس بديلاً للتجربة، والتجربة تُظهر أن الحرب الإنسانية تجمع بين الشيء ونقيضه. فقد ظهر أول فشل للفكرة في التدخل الأميركي غير الموفق في الصومال عام 1993؛ حيث تم سحب القوات الأميركية، التي أُرسلت لحفظ السلام بينما كانت تُوَزع المساعدات على الملايين من المدنيين الجوعى، وذلك بعد مقتل 18 جنديا فقط. ذلك أن واضعي السياسات استوعبوا الدرس وفهموا أن الجمهور الأميركي لن يتحمل إصابات في حرب أهلية لا علاقة لها بالأمن القومي. وقد كان هذا الدرس وراء رفض الرئيس بيل كلينتون السماح بتدخل عسكري خلال حرب الإبادة التي شهدتها رواندا، وقراره بحصر التدخل العسكري الأميركي بكوسوفو عام 1999 في القصف الجوي المرتفع، والذي ضمن عدم مقتل أي طيار أميركي. والحقيقة أن التدخل في كوسوفو، رغم اعتباره نجاحا في بعض الدوائر، فإنه كلف واشنطن مليارات الدولارات، وتطلب سبع سنوات من الاحتلال، وقد يتبين أنه نسخة بطيئة من السيناريو العراقي. تشير حرب العراق استنادا إلى التجربة إلى أن الحروب الإنسانية قلما تؤدي إلى نتائج إنسانية. فلماذا إذن ثمة ما يسمى بحركة "مسؤولية الحماية" التي تجعل التدخل الإنساني إجباريا من ناحية القانون الدولي؟ ولماذا شُجعت هذه الفكرة من قبل الأمم المتحدة خلال قمة الألفية؟ الواقع أن المهتمين بالشأن الإنساني يعترفون بأننا نواجه وضعاً محيراً ومؤلماً يتمثل في: تحمل الفظاعات في الدول الأجنبية أو مواجهة خطر ارتكاب أسوأ الفظاعات أثناء سعينا إلى محوها. وقد استخلص العديد من الناس الدرس من رواندا، وفهموا أن التخلف عن التدخل هو أسوأ الخيارات. غير أن حرب العراق قد تكون الخطوة الأولى لنسيان هذا الدرس. أما في حال لم تكن كذلك، فمن المؤكد أن تدخلا في دارفور سيكون. إيريك بوسنار أستاذ القانون بجامعة شيكاغو، ساهم في تأليف كتاب "حدود القانون الدولي" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"