في تاريخها الحديث، لم تنعم مملكة تايلاند بالكثير من الاستقرار السياسي، ومرت بها العديد من الانقلابات العسكرية، وشهدت فصولاً من إراقة الدماء يهول لها المشيب. وفي 20 سبتمبر 2006 وقع انقلاب أبيض، أطاح بحكومة "تاكسين شيناواترا"، الذي يُعد ذا شعبية كبيرة. إن الانقلاب الأخير يدل دلالة واضحة على هشاشة البنى والمؤسسات الديمقراطية في دول العالم النامي، وعلى أن تلك المؤسسات لم تترسخ بعد في كيانات المجتمعات التي تتواجد فيها لكي تحميها من خطر وقوع الانقلابات العسكرية التي تطيح بها كما هو حاصل لدى مجتمعات دول الغرب كأوروبا والولايات المتحدة. لقد قاد الانقلاب الأخير في تايلاند جنرال ذو خلفية دينية مسلمة، وربما يكون هو أول مسلم تايلاندي يصل إلى هذا الموقع السياسي في تاريخ المملكة، وهو موالٍ تماماً لملك البلاد وللمؤسسة الملكية، التي تحكم تايلاند لما يزيد على سبعة قرون، وتعود أصوله الاجتماعية إلى أسرة مسلمة عريقة من الطبقة الوسطى، ولها ارتباطات قوية بأصحاب المبادرات الاقتصادية الفردية والنشاط التجاري الحر. هذه الفئة الاجتماعية بكامل خلفياتها وأصولها بالإضافة إلى موظفي الدولة المنتمين إلى البيروقراطية القوية الضاربة بجذورها في أوساط سكان الحضر، خاصة في العاصمة بانكوك، لها مواقف معارضة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي كان ينتهجها رئيس الوزراء المخلوع. ويبدو أن العلاقة بين "تاكسين" والقوى المعارضة له، كانت قد وصلت إلى طريق مسدود بالنسبة للخلافات القائمة، الأمر الذي اضطر العديد من الفئات المعارضة إلى البحث عن الوسائل السلمية التي يمكن من خلالها إبعاده عن رئاسة الوزراء. ويقول معارضوه، إنه نظراً لهيمنته الكاملة على النظام السياسي وإلغائه العديد من وسائل المراقبة الداخلية بين مؤسسات النظام على بعضها، فإنه لم تعد أمام المعارضة من وسيلة أخرى للإطاحة به وكسر الجمود السياسي القائم سوى تدبير الانقلاب العسكري. وتضيف فئات أخرى من المعارضة، أنه لم يكن من الممكن التوصل إلى حلول وسط بين الطرفين بطرق سلمية، لأن رئيس الوزراء لم يكن يلعب وفقاً لقواعد اللعبة. أما الانقلابيون أنفسهم، فيشيرون إلى أن بلادهم، خلال السنوات الخمس الماضية، لم تكن بلداً ديمقراطياً بالمعنى الصحيح، وإنْ كان "تاكسين" قد وصل إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع ولثلاث مرات متتالية. فرئيس الوزراء بنفسه أحال النظام الديمقراطي إلى نظام شمولي، وأدار السلطة بطريقة ديكتاتورية، استبد من خلالها بالسلطة. لذلك فإن قادة الانقلاب يبررون تصرفهم الخاص بالإطاحة بالسلطة بأنه رد فعل مباشر على استشراء الفساد الواسع في أوساط أجهزة الدولة والمجتمع، واغتناء البعض على مصالح الأغلبية. ونتيجة لذلك كان عليهم أن يمنعوا ما كان حاصلاً، لأن استمراره يعني الإضرار بأمن البلاد واستقرارها ومصالحها الاقتصادية. من الملفت للنظر، أن رئيس الوزراء المطاح به، كان صاحب شعبية واسعة في أوساط المجتمع التايلاندي القابع في ريف البلاد وأقاليمها النائية خارج بانكوك والمدن الأخرى القريبة منها. وتقول العديد من وسائل الإعلام والمحللين السياسيين المهتمين بالشأن التايلاندي، إن "تاكسين" كان سيفوز بأية انتخابات تجرى إذا سُمح له بالمشاركة فيها. ويُقال إن السبب في ذلك يعود إلى أنه يحظى بولاء ملايين التايلانديين البسطاء خارج المدن بسبب اهتمامه الشديد بهم خلال سنوات حكمه، فهو يوفر لهم خدمات دولة الرفاه التي تقدمها حكومته، كالتعليم المجاني والخدمات الطبية، بالإضافة إلى الأقساط الزراعية الميسرة للمزارعين، والقروض ذات الفوائد البسيطة الممنوحة لأصحاب المهن والحرف في القرى. وبعيداً عن كل ما يمكن أن يقال من سلبيات داخلية تايلاندية ارتبطت بممارسات النظام المخلوع ورئيس الوزراء الذي يقوده، وأدت إلى الإطاحة به، فإن أهم المؤشرات التي يدل عليها الانقلاب هي، أن دول العالم النامي التي تبنت الديمقراطية حتى الآن، لم تستوعب بعد وبطريقة جذرية وشاملة، سواء كان ذلك على مستوى القاعدة الشعبية أو القوات المسلحة أو حتى النخبة السياسية، مفهوم الديمقراطية البرلمانية على النمط الغربي، والذي تحاول دول الغرب الرأسمالية الترويج له، بل وأحياناً فرضه في أوساط شعوب هذه الدول. إن أهم مبدأ تقوم عليه الديمقراطية البرلمانية هو تداول السلطة بطريقة سلمية، وتركها في يد الحزب السياسي أو مجموعة الأحزاب السياسية المشكّلة لأي ائتلاف حاكم إلى أن يحين موعد الاقتراع الجديد، سواء كان ذلك بانقضاء الفترة أو باستقالة الحكومة لسبب أو لآخر. الديمقراطية البرلمانية تقوم أساساً على ابتعاد الجيوش تماماً عن تعاطي السياسة، وبقائها كمؤسسات تحمي البلاد من الأعداء الخارجيين، وابتعادها عن أن تكون حكماً بين الأطراف السياسية المتصارعة فيما بينها وخصماً لطرف دون آخر. ولكن جيوش العالم النامي تتدخل في السياسة عنوة وتطيح بمن لا يعجبها حين تشاء وكيفما تشاء، وهذا أبعد ما يكون عن فهم كنه الديمقراطية.