عادت قضية ارتفاع الأسعار لتحتل حيزاً كبيراً من الاهتمام الشعبي والإعلامي في الدولة طوال الأيام الماضية، ليس فقط لتأثير ذلك سلباً في المستهلك، ولكن أيضاً لتأثيره في مجمل الأنشطة الاقتصادية في البلاد. وتركزت محاور تناول هذه القضية إعلامياً وجماهيرياً بشكل أساسي على أهمية وضع الضوابط التشريعية التي تهدف إلى إنهاء احتكار تداول بعض السلع الرئيسية، وعلى ضرورة تقنين الرقابة على الأسواق ومراقبة الأسعار لمواجهة أي ارتفاع غير مبرر ولا منطقي تفوح منه رائحة الاستغلال. وزارة الاقتصاد من جانبها سلكت نهجاً "تفاوضياً" مع المستوردين والموزعين ضمن جهود حكم عليها الكثيرون بالفشل مسبقاً، والوزارة في إطار محاولاتها هذه للسيطرة على الموقف تنطلق في معالجة المشكلة بهذه الطريقة، من أنها لا تريد أن تخل بقواعد وآليات العرض والطلب التي يقوم عليها مفهوم "الاقتصاد الحر" الذي تنتهجه دولة الإمارات، رغم أن موضوع الحرية الاقتصادية لا يزال قضية خلافية على مستوى العالم، كما أن مبدأ الحرية الاقتصادية ليس مطلقاً سوى من حيث الشكل أو المضمون. فنظرية "الاقتصاد الحر" التي سادت في المجتمعات الغربية عبر حقب تاريخه طالت في بعضها وقصرت في بعضها الآخر، كانت تحكمها قواعد ذاتية أثبتت جدواها في مراحل وفشلها في مراحل أخرى عديدة. فقواعد التطور الذاتي للمجتمع بإطلاق قوى السوق المتمثلة في آلية العرض والطلب لكي تلعب دورها كاملاً فعلت فعلها وأدت في زمن طويل إلى تحقيق ما تصبو إليه المجتمعات الرأسمالية، إلا أن متغيرات عالمية اقتصادية وسياسية واجتماعية عديدة برزت مؤخراً تشير إلى أهمية تدخل الدولة في الاقتصاد لتضمن توجيه دفة النمو بعيداً عن انحرافات القوى المطلقة أو المنحرفة للسوق، وما الخلاف الذي لا يزال يعرقل مسيرة تحرير التجارة العالمية إلا وجه واحد من وجوه تدخل الدول في الاقتصاد، حتى بالنسبة إلى الاقتصادات الكبرى التي تمثل قمة الرأسمالية العالمية، التي تقوم "نظرياً" على فكرة "الاقتصاد الحر". ولاشك في أن إطلاق الحرية المطلقة لقوى السوق بحاجة إلى ضوابط عديدة ورقابة أكبر، إذ إن قوانين العرض والطلب المجردة تواجه العديد من العقبات التي تحول دون تحركها بالآلية والفاعلية اللتين تخدمان مصالح الجميع. وبالتالي فإن المطلوب تحديداً تدخل مدروس وسريع وحازم من قبل الجهات الحكومية ذات الصلة، ومن خلال العديد من الوسائل والطرق الفنية الاقتصادية والمالية، لوقف أي مبالغات في الأسعار، في ضوء مؤشرات اقتصادية واضحة ومحددة. كما أن هناك ضرورة ملحة لوضع ضوابط تشريعية للقضاء نهائياً على ظاهرة احتكار السلع، وكذلك الإسراع بتطبيق قانون حماية المستهلك وتفعيل البنود المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية ، وفي هذه الحالة وحدها يمكن لآلية العرض والطلب في السوق أن تعمل بشكل صحيح ومقنع للجميع وفي مقدمتهم المستهلك نفسه. كما أن حماية المستهلك من التصرفات الاحتكارية هي أحد أهم الأهداف التي تحققها المنافسة بين المنتجين أو الموردين، والتي توضع من أجلها القوانين الاقتصادية في دول الاقتصاد الحُر التي تلاحق التصرفات الاحتكارية قانونياً. وهذا بدوره يطرح قضية أخرى أكثر شمولاً تتعلق بتحديد حجم دور الدولة في الاقتصاد عموماً وفقاً لموازنة دقيقة تتطلب وجود إدارة اقتصادية فاعلة للمجتمع الاقتصادي، تستوعب كل إمكانات المجتمع، وتضع الخطط والبرامج لنموه وتديره بشكل فاعل للوصول إلى غاياته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.