لن نتحدث اليوم عن لقاء البابا بنديكت السادس عشر، الاثنين الماضي، مع سفراء وممثلي دول إسلامية، حيث إن اللقاء "نصف الناجح" ستكون له -فيما نظن- تداعيات. وطبعاً، نحن لا نريد البحث في نوايا الحبر الأعظم إذ كتب واقتبس ما هو مثير للجدل (كي لا نقول أكثر) بتاريخ 12/9/2006، ذلك أن النوايا علمها عند الله. وإذا كنا لا نقبل مثل تلك الاقتباسات الظلامية، "النابشة" في تاريخ أوروبي ظلامي يعود إلى عام 1391 للميلاد، ولا نقبل بتوقيتها المؤسف، فإننا نرضى بما صدر عن البابا والفاتيكان من توضيحات و"اعتذارات" تمنينا لو أنها جاءت أكثر اكتمالاً. وشخصياً، وقد عرفت البابا السابق يوحنا بولس الثاني عن قرب، بل أكرمتني الظروف باستضافته بمعية المرحوم الرئيس ياسر عرفات في مخيم الدهيشة في بيت لحم، وشرفت بإلقاء كلمة فلسطين قبيل إلقائه لكلمته الرائعة يومها... يعز عليّ أن أرى أن ما أسسه البابا السابق وقد أصبح البابا الحالي على وشك تجاوزه! فالحبر الأعظم الراحل كان صاحب المبادرات في حوار الحضارات، ليس فقط مع الديانتين الإسلامية واليهودية (مع أنه في كرمه مع هذه الأخيرة "زادها" قليلاً!) بل نجده أيضاً وقد أسهم كثيراً في رتق الفتق مع الكنائس الشرقية. بالمقابل فإن الحبر الراهن لم يفعل (حتى الآن على الأقل) ما يعزز جهد سابقه، بل لربما قد يكون اختط لنفسه درباً يعادي ولا يصادق، يهدد ولا يحمي، يبدد ولا يصون... ما بناه البابا الراحل. غير أن كل هذا يتضمن أحكاماً واحتمالات لا يفصل فيها إلا "قاضي" المستقبل الحافل بالتطورات. إن ما يعنينا الآن يتجسد في طبيعة ما صدر من ردود أفعال رسمية وشعبية، عربية وإسلامية، بل وردود أفعال دولية رسمية وشعبية مسيحية وغير مسيحية. فهذه جميعها جاءت إجمالاً محقة وغير متشنجة (إلا فيما ندر) ونحن نتفهم دوافعها... وفوائدها... وسلبياتها أيضاً، مثلما نتفهم حرص أطراف عديدة عاقلة على احتوائها. لذلك فإن الأكثر استعجالاً في أجندتنا هو ذلك الذي صدر (بوعي أو بغير وعي) عن فئات، بل قلْ نبتات شيطانية أو حسنة النية لكن بالتأكيد متشنجة، وجاهلة، بل هي عدوة نفسها ودينها. فئات أحرقت (أو حاولت إحراق) كنائس أو تعرضت بالأذى لأهلنا من أهل الكتاب من المسيحيين الذين أطنب القرآن في تسجيل حسن ذكرى نبيهم ونبينا السيد يسوع المسيح وأمه البتول مريم العذراء. والمعروف أن الإسلام قد كرم، في القرآن الكريم، النصرانية "كما لم يكرم عقيدة أخرى". ومع أننا، اليوم، لسنا في معرض الحديث عن الدور الوطني المتميز الذي لعبه ويلعبه مسيحيو الوطن العربي في خدمة القضايا المصيرية العربية وفي الطليعة منها قضية فلسطين، فإننا -للأسف الشديد والخجل الكبير- نجد أنفسنا نستذكر ما جرى من أعمال مشينة تجاه كنائس فلسطينية على أرض فلسطين من "أناس" (مخلوقات) يقولون عن أنفسهم إنهم "فلسطينيون"! فأي "أخلاق" هي أخلاقهم؟! وأي "وعي" هو وعيهم؟! وأي "حكمة" هي حكمتهم؟! وأي "نضال" هو نضالهم؟! وانظروا، انظروا معنا، بعد أن مارست مؤسسات إسلامية حقها الطبيعي برفض واستنكار الاقتباس الملتبس والخاطئ، وكذلك الاعتذار الملتبس الناقص، انظروا معنا، بدواعي الفخر، لكل ما صدر عن الرموز والمؤسسات المسيحية (من مختلف الكنائس) تجاه ما اقتبسه البابا بنديكت السادس عشر. بل إن البعض (وبخاصة في أوساط المثقفين، المسلمين والمسيحيين، الضالعين في علم الأديان) أوضح خطورة الانتقائية في النص، وخطورة التوقيت المشبوه، بل خطورة إضافية بمضمون خطاب البابا! ففي الوقت الذي شن فيه "حربه" أو "اجتهاده" أو "اقتباسه" على الإسلام، قام بتمرير مقاطع لها مدلولاتها التملقية، لكن السياسية الخطيرة (ولو بعبارات دينية أو "أكاديمية"!) لصالح اليهودية ولصالح إسرائيل، بل لصالح قوى "صراع الحضارات"، سواء في الولايات المتحدة أو خارجها. لذلك كله، جاءت غضبة مسيحيي الوطن العربي عارمة. وحسب المرء أن ينظر إلى ما قامت به المؤسسات والشخصيات المسيحية في بلدان مثل مصر ولبنان وفلسطين. بل إن المجلس التنفيذي للرابطة المارونية كان واضحاً جداً حين أشار إلى أن ما يجري إنما هو محاولة "لضرب التنوع الديني" في لبنان والمنطقة، الأمر الذي "يخدم أحادية الكيان الإسرائيلي الدينية العنصرية". كما أن شخصيات قبطية مصرية هاجمت "الروح العنصرية التي أصبحت تهيمن على دولة الفاتيكان". وهذه مجرد نماذج (من شواهد عديدة أخرى) على ردود الفعل المسيحية في المنطقة التي هي نماذج جديدة على وطنية مشهودة لعشرين مليون مسيحي عربي. فلماذا إذن تحرق كنائس في دنيا العرب وبخاصة في فلسطين؟! إذن كيف سمحت هذه "المخلوقات" لنفسها، باسم الإسلام العظيم ارتكاب ممارسات من نوع الاعتداء على مسيحيين وكنائس؟! وأين؟! في فلسطين التي بارك الله قدسها الشريف وما حوله، مثل كنيسة القيامة وغيرها من كنائس وجوامع بالقدس، وكنيسة المهد وما يجاورها من كنائس وجوامع في بيت لحم؟! ومن أين جاءت القدرة والجرأة، بل قلْ الوقاحة، لتلك المخلوقات المسخ كي تحاول تمزيق "العهدة العمرية"؟! أو تحاول تمزيق تاريخ وحاضر بل مستقبل الأخوة الإسلامية/ المسيحية؟! وكيف طاوعتهم قلوبهم (هل لديهم –حقاً- قلوب؟!) كي يقوموا بتمزيق مسيرة نضال تحرري مسيحي/ إسلامي مشترك ضد الصهيونية الفاشية والحركة التوراتية الخرافية التي انتهكت الجوامع قبل الكنائس، وانتهكت الكنائس قبل الجوامع، بل انتهكت - بتداعيات ما فعلت- اليهودية السمحاء والكنس اليهودية أيضاً؟! حسبنا الله ونعم الوكيل. ونضيف: إن كانت هذه المخلوقات (ونخص هؤلاء في فلسطين: البلد المصدر للديانتين اليهودية والمسيحية وأولى القبلتين وثالث الحرمين) كائنات من الجهلة، فنحن نسامحهم ونطلب لهم المعرفة. وإن كانوا من المرضى نفسياً فنحن نغفر لهم ونتمنى لهم الشفاء. وإن كانوا من المتعصبين، فنحن نسامحهم ونشتهي لهم نعمة التسامح. أما إن كانوا من الأدوات (الصهيونية أو غيرها) فنحن لن ننسى ولن نسامح ولن نغفر. فمن يمزق وشائج الأخوة الإسلامية/ المسيحية، ومن يزرع الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، بمسلميه ومسيحييه، ومن يسعى لتمزيق مضامين النص القرآني والوثيقة العمرية... فإنه يستحق أن يحرق كما حاول هو أن يحرق! وهذه دعوة للرئاسة الفلسطينية، وللحكومة الفلسطينية، ولمؤسسات العمل الأهلي الفلسطيني (والعربي) كي تحاسب كل من بغى وظلم! وتبقى "الوثيقة العمرية" وثيقتنا وعهدنا الذي نصون ونحمي، بالغالي قبل الرخيص، ضد كل مُعتدٍ عليها... رخيص!