تكشف الصورة البراقة لليابان الحديثة التي ترفل في مكاسب التكنولوجيا فائقة التقدم والمتماسكة داخلياً، عن واقع آخر يفور بمعطيات مختلفة يتقاطع فيها الشعور بالاستياء والغضب الذي يعم السكان من جهة، مع الإحساس بالاغتراب وفقدان الثقة بالمستقبل من جهة أخرى، إلى درجة أن العديد من المواطنين باتوا يترنحون على حافة الانهيار العصبي. لذا يثير صعود القائد الياباني الجديد المحسوب على الصقور "شينزو آبي" ليخلف رئيس الوزراء الحالي جونشيرو كويزومي يوم الثلاثاء الماضي، مخاوف جمة تتعلق باحتمال انبعاث المشاعر القومية الملتهبة التي مازالت ثاوية تحت السطح، لا سيما في ظل وجود إدارة أميركية تسعى إلى إحلال قوة تعادل صعود الصين القوي في واجهة الأحداث العالمية. من ناحية أخرى تزداد شيخوخة السكان في اليابان بسبب إحجام نسائها عن الزواج وإنجاب الأطفال، بحجة ارتفاع تكاليف الحياة وصعوبة تربية الأطفال في اليابان المعاصرة. يضاف إلى ذلك تجاوز تطلعات المرأة اليابانية تربية الأطفال، رغم أن معظم الرجال في اليابان يفضلون بقاء زوجاتهم في البيت. لكن الأخطر من ذلك هو معدلات الانتحار المرتفعة لدى الطبقة الوسطى واسعة الانتشار في اليابان، والتي تفوق بثلاث مرات ضحايا حوادث السير الراجع في جزء منه إلى نظام التوظيف مدى الحياة الذي بدأ في التصدع والانهيار. واللافت أيضاً هو ارتفاع معدل البطالة بين صفوف الشباب في العشرينيات، حيث يلاقي أكثر من مليون شاب صعوبة كبيرة في الحصول على عمل وهم إلى ذلك لا يخضعون لبرامج تعليمية أو تدريبية من أي نوع. كما أن عدداً كبيراً من هؤلاء الشباب يعيشون في عزلة عن المجتمع ويمضون حياتهم منكفئين على أنفسهم في بيوت آبائهم، عاجزين تماماً عن التأقلم مع مجتمع يتطلب انسجام جميع أفراده مع القواعد العامة ولا يتوانى في استخدام أساليب قمعية لفرض سلطته وإخضاع الأفراد. ومن نافلة القول إن مجتمعاً من هذا الطراز هو في أمس الحاجة لصياغة البنى الاجتماعية اللازمة لاعتناق مفاهيم الفردية والتعبير الشخصي عن الذات السائدة في الغرب والمرتبطة بما بعد المرحلة الصناعية. وفي خضم هذا الاضطراب والتململ الذي يعيشه المجتمع الياباني، دون امتلاك الجرأة للاعتراف به، يدخل "شينزو آبي" ذو الـ52 عاماً على الخط، بعدما تأكدت خلافته لكويزومي الذي أمضى خمس سنوات ونصف السنة على رأس "الحزب الديمقراطي الليبرالي" الذي حكم اليابان منذ عام 1955. ورغم عناوين الصحف التي ظهرت مؤخراً والداعية لإعادة الاقتصاد الياباني إلى سالف قوته، فإنها تبقى في مجملها دعوات سابقة لأوانها وصعبة التحقق بالنظر إلى النمو الاقتصادي الضعيف للاقتصاد الياباني خلال الربع الأخير من السنة الجارية الذي لم يتجاوز 0.2%، فضلاً عن الدين المالي الثقيل الذي بلغت نسبته 170% من الناتج المحلي الإجمالي. وكأن ذلك لا يكفي اليابان، فهناك التراجع المستمر في عدد السكان، حيث فاق عدد الوفيات، والذي وصل 15 ألف حالة في العام الماضي عدد الولادات في العام نفسه. وبسبب الديون الثقيلة التي راكمتها الشركات اليابانية عقب انفجار الفقاعة الاقتصادية عام 1989، لجأت تلك الشركات إلى تسريح العمال الأكبر سناً لاستعادة جزء من أرباحها دون توظيف الشباب الأكثر احتياجاً إلى العمل. وليس غريباً في ظل هذا الوضع أن يصل معدل البطالة بين الشباب إلى مستويات قياسية، وألا يتخطى دخل 20% من المواطنين العاملين 13 ألف دولار في السنة، وأن يعمل 32% من الشباب العامل في وظائف غير مستقرة ومن دون ضمانات وظيفية، ولا زيادات سنوية. فماذا يقترح شينزو آبي وهو يتهيأ لاستلام السلطة؟ يريد رئيس الوزراء الجديد إعادة كتابة الدستور الياباني لتعزيز القدرات العسكرية لبلاده. وقد تعهد أيضاً بزيارة مزار ياسوكوني الذي يضم رفات قادة الحرب اليابانيين والذي تثير زيارته غضب الصينيين، مجِدِّداً رغبته في تعميق التعاون العسكري مع الولايات المتحدة وراسماً في الوقت نفسه صورة اليابان كبلد "فخور بتاريخه وثقافاته"، وهو ما يؤشر على تنامي المشاعر القومية التي مازالت تعمل بقوة في المجتمع الياباني. مايكل زيليزنزيجر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب أميركي متخصص في الشؤون اليابانية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"