الخطوة غير المتوقعة التي أقدم عليها الرئيس بوش بشأن تغيير سياسته المتعلقة بالسجون السرية والتعذيب، والتي أعلن عنها في السابع من سبتمبر الحالي، كانت مجرد وسيلة اتخذها الرئيس للدفاع عن بعض أعضاء إدارته وغيرهم من احتمال تعرضهم للإدانة عن جرائم حرب وغيرها من المخالفات سواء ضد الأميركيين أو ضد القانون الدولي. وهذا الأمر أصبح هماً جدياً للبيت الأبيض، وذلك في أعقاب صدور عدة قرارات ضد الحكومة بشأن سجن أفراد في نطاق الحرب على الإرهاب، ومن أهمها القرار الصادر عن المحكمة العليا في شهر يونيو الماضي ومقتضاه أن سجناء جوانتانامو يجب أن يحظوا بالحماية التي توفرها اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب. ربما يكون ذهن البيت الأبيض مشغولاً بالتفكير في احتمال تعرض الرئيس لتهمة الإخلال بواجبات الوظيفة، إلا أن هذا الاحتمال، يعد من الناحية السياسية، احتمالاً بعيداً رغم تحمس بعض منتقدي الرئيس له، بيد أن هذا الخطر ليس بعيداً بالقدر الذي يتخيله البعض، وخصوصاً إذا ما أدت انتخابات نوفمبر القادم إلى سيطرة "الديمقراطيين" على الكونجرس ولجانه. وكانت الحجة التي تبنتها إدارة بوش في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، هي أن "مقاتلي العدو" ليست لهم حقوق، كما أنها قدمت مزاعم أخرى بصدد عمليات التعذيب والخطف في الخارج. بيد أنه كان هناك دليل ورقي مستمد من مستندات الإدارة ووثائقها يبين نية المسؤولين السياسيين والقانونيين في الإدارة الأميركية (بما في ذلك وزير العدل الأميركي الحالي) في الالتفاف على القوانين القائمة، وإيجاد تفسيرات ملتبسة ومراوغة بشأن التعذيب ومعاملة المساجين. وكان خط الدفاع الأخير للإدارة يتمثل في الحجة المبتكرة آنذاك التي تقول إنه في الأمور المتعلقة بالحرب والأمن القومي، يصبح الذراع التنفيذي للحكومة الأميركية فوق القانون، ويمكنه لذلك تجاهل قرارات الكونجرس والتغاضي عنها كما يمكنه أيضاً أن يتجاهل صلاحيات واختصاص المحاكم، وعلى ما يبدو فإن ذلك يبدو الآن في نظر المستشارين القانونيين للإدارة الأميركية درعاً واقية غير موثوق بها. فالولايات المتحدة ليست في حالة حرب، لأن تعريف "حالة الحرب" محدد بوضوح في القانون، بصرف النظر عما يقوله الرئيس بوش في خطبه. وهذا يعني أنه بإمكان الإدارة إحضار السجناء المحبوسين في سجون سرية في الخارج إلى معتقل جوانتانامو، وخصوصاً بعد أن أقر الرئيس علناً أن معاملتهم كانت "خشنة. ولكنها مع ذلك قانونية وضرورية"، لأنها وفرت معلومات قيمة أدت إلى إنقاذ حياة أبرياء. وهذا يعني من طرف خفي أنه لو كانت المعاملة غير ذلك، فإن الرئيس ما كان ليعرف عنها شيئاً. مع ذلك أعفت الإدارة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من الأعراف الطبيعية المقيدة، التي ينبغي اتباعها في استجواب السجناء، والتي تمت إعادة التأكيد عليها في النسخة الأخيرة من "كتيب الجيش الأميركي الميداني" بشأن هذا الموضوع، والذي سعت الإدارة إلى الحيلولة دون نشره، لأنه يعارض الممارسات الحالية. وإنْ كانت وكالة الاستخبارات المركزية كما تقول تلك الإدارة يمكنها "استخدام مجموعة بديلة من الإجراءات". من بين الجوانب المدهشة واللافتة للنظر فيما يتعلق بسياسة بوش كما بدت منذ البداية التزامها بالتعذيب، وهو أمر له سوابق محدودة -إن كانت له سوابق في الأصل- في السياسات العامة والسجال العام في أميركا. وفي الحقيقة أن مثل هذه السياسة قد قوبلت بغض الطرف، إنْ لم يكن بالتشجيع الضمني من قبل الكونجرس ومن قبل جانب كبير من الصحف والجمهور. في السنوات الأخيرة كانت هناك دلائل على حدوث نوع من الانقطاع عن الأعراف التقليدية التي كان "البنتاجون" يتبعها على الصعيد الدولي، ومنها عداوته الشديدة لكافة المقترحات المتعلقة بإنشاء محكمة جنائية دولية، ومطالبته بإعفاء أفراد القوات الأميركية المتمركزة في أي مكان في العالم من الخضوع للمحاكمات المحلية والدولية. كان من الصعب في ذلك الوقت فهم موقف "البنتاجون" على أنه إعلان مضمر على أن مذهبه العسكري يتضمن خيارات يمكن أن تستدعي الإدانة باعتبارها جرائم حرب. وما يتبين الآن هو أن الأمر كان كذلك بالفعل. ففي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 بدأت المقترحات التي تبيح التعذيب تُتداول في أروقة الإدارة و"البنتاجون" ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، على الرغم من أنه لم يكن هناك أحد في ذلك الوقت قد قبض عليه كي يتم تعذيبه. وفي هذا الوقت تمت صياغة مذكرات من قبل وزارة العدل الأميركية، تتضمن إرشادات بشأن الكيفية التي يمكن بها حماية العسكريين والمدنيين وكذلك ضباط الاستخبارات الأميركيين من التعرض للمحاكمة بموجب القوانين الأميركية المعمول بها حالياً. منذ البداية كان هناك انشغال بالكيفية التي يمكن بها حماية الرئيس وآخرين من العواقب القانونية لما كانوا يقومون به. وكان السؤال الذي يتم طرحه باستمرار على محامي الحكومة ومستشاريها القانونيين هو كيف يمكن للرئيس وغيره ارتكاب جرائم حرب دون أن تتم محاسبتهم على ذلك. وكانت الإجابات التي يقدمها المستشارون ومنهم "ألبيرتو غونزالس" وزير العدل الأميركي الحالي، تركز على أن الرئيس وهؤلاء الذين يعملون بموجب أوامره، ليسوا مقيدين بقوانين الولايات المتحدة أو بالمعاهدات الدولية. وفي شهر مارس 2003 -أي في الشهر نفسه الذي قامت فيه الولايات المتحدة بشن حربها على العراق- أكدت مذكرة أعدتها "قوة الواجب القانونية التابعة للبنتاجون" على الزعم القائل بأن الرئيس غير مقيد بالمعاهدة الدولية أو قانون الولايات المتحدة الفيدرالي لأنه: "يمتلك السلطة باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية في الموافقة على اتباع أية وسيلة تدعو إليها الحاجة لحماية الأمن القومي للأمة". وكما قال أحد المحامين العسكريين الذين اشتركوا في المناقشات في ذلك الوقت فإن ذلك كان تأكيداً على "الصلاحية الرئاسية في ذروتها المطلقة". إلا أن تصريح الرئيس بوش قبل بضعة أيام يمثل الخطوة الأولى في طريق التراجع عن ذلك الزعم، وهو تصريح في غاية الأهمية لهذا السبب على وجه التحديد. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"