أثارت المطالبة بتشكيل حكومة "اتحاد وطني" في لبنان سجالات كثيرة في الوسط السياسي اللبناني. وحاول البعض اتهام ما يسمونه بفريق الأكثرية– التي تارة يعترفون بها حقيقية وطوراً يعتبرون أن هذه الأكثرية وهمية– بأنه لا يريد مثل هذه الحكومة، في وقت يطالب فيه بتطبيق "اتفاق الطائف"، وهذا بند من بنوده، وذلك لأنه يريد الاستمرار في سياسة الهيمنة وحرمان فريق– خصوصاً في الصف المسيحي– من المشاركة. أعتقد أن هذا الهدف النبيل أكبر من تناوله بهذه الطريقة، إذا كانت المطالبة بتحقيقه صادقة، تتجاوز حدود النكايات وتصفية الحسابات السياسية، وتفجير الأحقاد أو ما تختزنه النفوس المشحونة. إنه هدف يستحق كل العناية والاهتمام والمعاناة للوصول اليه عندما تمر البلاد في ظروف استثنائية تحتاج إلى تماسك سياسي، يستند إلى رؤيا واضحة في مواجهتها. ولذلك ينبغي العمل على حماية الطريق التي توصل إلى هذا الهدف، لا تفخيخها ووضع المطبات فيها وخلق الحفر التي يمكن أن تعيق عملية الوصول أو تسقطها. 1- في المبدأ من حق كل فريق في لبنان أن يطالب بتغيير الحكومة وتشكيل بديل عنها، سواء أكان البديل حكومة "اتحاد وطني" أم حكومة من نوع آخر. هذا حق مشروع كفله الدستور ويجب التمسك بحق وواجب الدفاع عن حقوق الآخرين. ولا بد من تقدير واحترام فكرة الدعوة الى حكومة اتحاد وطني والتفاعل معها. 2– صحيح أن "الطائف" أشار إلى حكومة وفاق وطني في أحد بنوده بعد الحرب، ولكنه لم يشر إلى أن كل حكومة يجب أن تكون حكومة اتحاد وطني. وهذا ما لا يحصل في كل دول العالم. والكل يذكر أن محاولات تأليف حكومة الاتحاد الوطني، قد جرت أكثر من مرة بعد "الطائف"، وإحداها شكلت على هذا الأساس. 3– حكومة كهذه، وكما علمتنا التجارب في كل دول العالم، لا تقوم بالوعيد والتهديد والتخوين والتشكيك. فليس مفهوماً اتهام فريق يشكل شريحة كبيرة للبنانيين بأنه مرتبط بأميركا وإسرائيل أو ينفذ مشاريعهما، ويأتمر بأمر السفارات العائدة لدول لا تعمل لمصلحة لبنان، وبأنه فريق غير موثوق لإدارة شؤون البلاد، وتتم الدعوة في الوقت ذاته للشراكة معه! فهل ثمة رغبة في شراكة مع عملاء وأدوات؟ 4– إن هدفاً نبيلاً لا يتحقق إلا بالحوار. فتتداعى القوى الراغبة أو المدعوة إلى هذه الخطوة، إلى حوار جدي يناقش كل القضايا، فإذا ما تم التوصل إلى اتفاق يكون هذا برنامجاً سياسياً وبياناً وزارياً للحكومة الموعودة، فيتم الاتفاق على تشكيلة تضم القوى المتفقة ويبدأ الفريق الذي عيـّنها عملية التنفيذ، وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، تُشكّل حكومة من القوى القادرة على ذلك وتُحاسب أمام المؤسسات الدستورية. وهذا ما لم يطرحه المنادون بحكومة وحدة وطنية في لبنان، بل لجأووا إلى ممارسة كل الأساليب التي تصل إلى هدف آخر غير الهدف النبيل المعلن. 5– أما في مسألة إصرار فريق الأكثرية على حرمان فريق كبير من المسيحيين المشاركة في الحكومة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ولد هذا الفريق بعد الحرب مباشرة؟ ألم يكن موجوداً يوم شكلت هذه الحكومة؟ فلماذا وافقت أطراف على الدخول الى الحكومة يومها دون مشاركة هذا الفريق؟ هل كلما اتفق فريقان على أمر أو أقرّ تفاهماً بين بعضهما البعض، تتم الدعوة وبالشكل الذي تمت فيه إلى الإطاحة بالحكومة القائمة؟ 6– في المصلحة الوطنية ثمة أمران لا بد من أخذهما بعين الاعتبار لتحقيق أي هدف. الإدارة والتوقيت وهما أمران متلازمان. إذ أنني أكرر دائماً المعادلة التالية: مهما كانت قضيتك عادلة وشريفة ونزيهة ومشروعة ومقدسة، فأنت معرض لخسارتها إذا لم تكن إدارتك لها سليمة ومهمة بمستوى أهمية القضية. وانطلاقاً من ذلك، وإذا ألقينا نظرة على المشهد الإسرائيلي لتبين لنا التالي: - في إسرائيل رئيس حكومة مهزوز، ضعيف، مشكوك فيه وفي قدراته ومتهم بعدد من الفضائح، وبسوء إدارة الحرب، وبتحمله مسؤولية الهزيمة وعدم القدرة على تحقيق أي هدف من الأهداف التي أعلنها في حربه. في المقابل ثمة في لبنان رئيس حكومة قوي موثوق مشهود له من الجميع في الداخل والخارج بأنه أدار الأزمة إدارة جدية، وكان متماسكاً وصلباً وقوياً. وهو غير مشكوك في صدقيته ونزاهته ومسلكيته. - ثمة حكومة في إسرائيل مهزوزة، مفككة، تسودها الخلافات والتناقضات وتبادل الاتهامات. أما في لبنان، فالحكومة كانت متماسكة طيلة فترة الحرب وكل القرارات التي اتخذتها كانت بالإجماع. -في إسرائيل جيش تسوده الفوضى والخيبة والصدمة، ويتم في داخله تبادل اتهامات خطيرة حول تحمل مسؤولية نتائج الحرب السلبية. اتهامات بين وزير الدفاع ورئيس الأركان، واتهامات بين رئيس الأركان وقائد سلاح الجو سابقاً والقوات البرية. واتهامات بين الوزير وبعض وزراء الدفاع العسكريين السابقين. واستقالات من صفوف الجيش أبرزها استقالة قائد المنطقة الشمالية وتفاعلات الاستقالات في أوساط العسكريين. وحديث عن لجان تحقيق، واتهامات للحكومة بأنها تريد الهروب منها، والجيش قلق على هيبته وصدقيته ويحمـّل السياسيين المسؤولية. أما في لبنان، فالجيش مطلب لكل اللبنانيين وموضع ثقة وإشادة به وهو ينتشر على كل الأراضي اللبنانية. أمام هذا المشهد ما هو المطلوب؟ هل المطلوب تكريس هذه الصورة عن إسرائيل والعمل على إبرازها، وهز المجتمع السياسي والعسكري الإسرائيلي أكثر، والاستمرار في فضح إسرائيل وتسليط الضوء على حربها ونتائجها، عليها أولاً، وإدانة هذا الإرهاب ومخاطبة كل العالم بأن هذا الطريق لن يسفر إلا عن مثل هذه النتائج؟ أم أن المطلوب هز المشهد السياسي اللبناني والمسرح السياسي اللبناني وجعله مشابهاً تماماً لما هو قائم في إسرائيل؟ للأسف عن قصد أو غير قصد ، هذا ما فعله الذين رفعوا أصوات التنديد بالحكومة والتهديد باسقاطها وتشكيل حكومة إتحاد، وهم بذلك نقلوا السجال من مكان إلى آخر وأضعفوا الواقع السياسي الداخلي في وقت كان لا بد من الاستمرار في التركيز على إسرائيل ووضعها الداخلي وتعزيز التماسك السياسي في الداخل. لاسيما وأن إسرائيل كانت ولا تزال تحتل وتحاصر لبنان آنذاك، وهي تقوم باعتداءات يومية وتخرق دائماً القرار الدولي 1701، وكان لهذا مرتبة ثانوية في السياسة والاعلام لولا الاعتصام النيابي الذي دعى اليه الرئيس نبيه بري والمواقف التي صدرت عن الحكومة. لقد كان بالإمكان، وهذا ما هو ضروري في كل لحظة، الانفتاح، والاستماع إلى هواجس كل اللبنانيين بعد أخطر حرب عاشوها، وقلق على مستقبلهم ودمار وخراب في اقتصادهم ومؤسساتهم، والمبادرة إلى نقاش جدي يمكن أن يكرس الاهتزاز في إسرائيل، والاعتزاز في لبنان بالصمود وبلملمة آثار الحرب، كما يمكن أن يؤدي إلى البحث في الآليات، والصيغ التي يجب اعتمادها في هذه المرحلة ومن ضمنها حكومة الاتحاد الوطني. أعتقد أنه لو تم سلوك هذا الدرب، لكان هذا أفضل للبنان ولمن رفع شعار حكومة الاتحاد الوطني، ولكان أسقط كل التساؤلات التي وللأسف زادت وزادت معها المخاوف من بعض السياسات والخطابات والمواقف والمصطلحات الانفعالية والارتجالية والتي تسيء إلى السياسة كما إلى أصحابها وإلى اللبنانيين كلهم!