في إحدى المرات نشرت مجلة "نيويوركر" رسماً كاريكاتورياً يظهر فيه كلبان يجلس أحدهما إلى شاشة الكومبيوتر، بينما يقول للآخر: "على الإنترنت لا أحد يعرف أنك كلب". ولا أحد يعرف أيضاً أنك من أوروجواي، تلك الدولة الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها الثلاثة ملايين نسمة والمحشورة بين البرازيل والأرجنتين. فقد خرجت أوروجواي من العدم وجاءت من المجهول لتصبح شريك أكبر شركة هندية في مجال التكنولوجيا المعروفة بـ"تاتا" للخدمات الاستشارية، ولتتمكن في وقت وجيز لا يتعدى الأربع سنوات من أن تتحول إلى أكبر شركة تقوم بوظائف بالوكالة عن الشركات العالمية في جنوب القارة الأميركية. وهكذا فعندما يكون موظفو شركة "تاتا" في الهند يغطون في نومهم، يواصل زملاؤهم من المهندسين والمبرمجين في أوروجواي، والبالغ عددهم 650 موظفاً، العمل دون توقف، مساعدين في تأمين الخدمات والعمليات المُعقدة التي تحتاجها الشركات العالمية مثل "أميركان إكسبريس" و"بروكتر أند جامبل"، فضلاً عن البنوك الأميركية، وكل ذلك يحدث من العاصمة مونتيفيديو. لكن كيف حصل ذلك؟ لاشك أن إحدى أبرز الملامح المميزة لعصر العولمة الذي نعيشه اليوم هي إمكانية قيام أي رجل أعمال، يمتلك خيالاً جامحاً وموصولاً بالإنترنت ويتوفر على قدر من المال، بإنشاء شركة عالمية من خلال الربط بين موظفين وعملاء أينما وجدوا في العالم للقيام بأعمال، لكل من يكلِّفهم بها. ولربما كانت القاعدة الأهم التي تميز عالمنا الآخذ في التسطيح، هي انتفاء الحدود وسهولة إنجاز الأعمال وتوفير الخدمات، مهما كان نوعها، بفضل وجود شبكة مترابطة من الموظفين والعملاء قاسمها المشترك الابتكار والتواصل فيما بينهم دون سابق معرفة. والسؤال الوحيد هو ما إذا كنت ممن يتولون إنجاز العمل وإخراجه إلى حيز الوجود، أو كنت الشركة نفسها التي تطلب إنجازه. وبالنسبة لجابريال روزمان فقد قرر لعب دور المنجز للعمل والموفر للخدمات بعدما خامرته فكرة جريئة دفعته إلى الدخول في شراكة مع الشركة الهندية "تاتا" وتحويل عاصمة الأوروجواي إلى بؤرة عالمية لإنجاز الأعمال بالوكالة عن الشركات الكبرى. ويذكر جابريال أنه عندما اتصل بـ"تاتا" لأول مرة، لم يكن لديه عميل واحد ولا حتى موظف ليساعده. وكل ما كان يتسلح به هو شعور فطري بأن النظام التعليمي الجيد في أوروجواي خرَّج العديد من المهندسين الأكفاء ذوي التكلفة المنخفضة، علاوة على رغبته الدفينة في مساعدة بلده أوروجواي على النهوض من كبوته ورد الجميل القديم الذي منحته لأبويه المجريين الذين فرا من هتلر ليجدا الملاذ الآمن في بلده الجديد. أربع سنوات مرت على ذلك التاريخ أصبحت بعده "إيبيرو أميركا"، وهو الاسم الذي أطلقه على الشركة، مكتظة بالموظفين ولا تكاد تسعهم، فراحوا يتكدسون في الممرات منكبين على أجهزة الكمبيوتر بسبب الطلب المتزايد على الخدمات التي توفرها الشركة. ويبدو أن نجاح الشركة وتوسعها يعزى في جزء منه إلى رغبة الكثير من الشركات العالمية في تنويع المتعاونين معها وعدم حصر تعاملها مع شركات، أو أماكن بعينها، لاسيما بعد أن أوشك بنك أميركي على الإفلاس السنة الماضية إثر الفيضان الذي غمر مومباي في الهند وأغرق مركز البيانات الذي كانت تشرف على إدارته شركة محلية. يضاف إلى ذلك أن إنجاز الأعمال والخدمات من أوروجواي، يبعد عن الشركات العالمية شبح اندلاع حرب نووية بين الهند وباكستان. ويحكي روزمان كيف بادره المسؤول في أحد البنوك الأميركية الذي كان يحاول إقناعه بالتعامل مع شركته بدلاً من إرسال معاملاته إلى الهند قائلا: "ولكنني لا أعرف حتى أين تقع مونتيفيديو"! ليرد عليه روزمان: "وهذا هو المطلوب بالضبط، إنجاز المهمة دون الانشغال بالمكان". والعامل الآخر الذي ساهم أيضاً في نجاح شركة جابريال روزمان هو الاختلاف الزمني بين الهند والولايات المتحدة. ففي الهند يعهد بإنجاز الخدمات إلى فريق ثالث من المهندسين يداومون أثناء الليل لتلبية احتياجات الشركات الأميركية خلال النهار. وبسبب التقارب في التوقيت بين الأوروجواي والولايات المتحدة، استطاعت شركة روزمان أن تبز منافساتها في الهند وتفوز بحصة مهمة من السوق العالمية في مجال توفير الخدمات للشركات العالمية، والأميركية على وجه التحديد. ولأن شركة "إيبيرو أميركا" التي أسسها روزمان، تعتبر شريكاً لـ"تاتا" في الهند فإن مقرها في العاصمة مونتيفيديو لا يخلو من بعض الموظفين الهنود، وإن كانوا قلة مقارنة مع نظرائهم من أبناء البلد. وتتبع شركة روزمان نفس مبادئ الشركات الهندية التي تعمل في مومباي، إذ كثيراً ما يرى المرء الموظفين في مقر الشركة بأوروجواي وهم يحاولون التشبه بزملائهم في الهند. وفي هذا الإطار تقول روزينا مارميون، وهي مسؤولة في الشركة: "إن عملاءنا في الخارج يتوقعون منا أن نتعامل مثلما يفعل الهنود، وأن نتبنى المواقف ذاتها". غير أن ثقافة العمل السائدة في أوروجواي تختلف عن تلك التي اعتاد عليها الهنود، ذلك أنه من غير الوارد أن يرفض الموظف الهندي طلباً لأحد، أو أن يظهر تبرمه، على عكس الموظفين في الشركات بالأوروجواي التي تفتقد إلى هرمية صارمة. ورغم تعود العملاء الأجانب على الأسلوب الهندي في توفير الخدمات للشركات العالمية، فإنه مع مرور الوقت عرف الموظفون في أوروجواي كيف يكسبون ثقة المتعاملين معهم بعدما أدركوا أن مناقشة الطلبات لا تعني رفضها، بل تعني فقط وجود طريقة أفضل لإنجازها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"