ينطلق الناقد الثقافي الأميركي جريل ماركوس من التاريخ الأميركي والتفاعلات السيوسيو- ثقافية التي شهدتها الولايات المتحدة منذ قيامها على يد الآباء المؤسسين الذين شيدوا أركانها ورسموا مبادئها الأولى، لتحليل الراهن الأميركي واستكناه طبيعة المحددات التي ساهمت ومازالت تساهم في تشكيل الوعي الأميركي ورسم معالمه المميزة. فقد وضعت أميركا لنفسها مجموعة من القيم والمثل العليا وتعهدت بالالتزام بها. ولعل ذلك يرجع إلى طبيعة نشوء الدولة نفسها والظروف التي رافقته، حيث استوطنت مجموعة صغيرة من الأوروبيين القادمين من إنجلترا الساحل الشرقي للولايات المتحدة وأسست أولى مدنها بعيداً عن الاضطهاد الديني والقمع السياسي الذي خلفه أولئك المهاجرون وراء ظهورهم في أوروبا. بيد أن هذا التأسيس ارتكز على خطاب ديني مفعم باصطلاحات توراتية شبهت العالم الجديد بـ"أرض الميعاد"، وراحت تصور المستوطنين على أنهم "أبناء إسرائيل" قدموا لإشاعة تعاليم الرب وإقامة مجتمع جديد. ولئن كان ذلك معروفاً لدى الباحثين، فإن الإضافة النوعية التي جاء بها ماركوس في كتابه المهم "صيغة الأشياء المقبلة: النبوءة والصوت الأميركي"، تتمثل في أن أميركا مدينة في وجودها واستمرارها لذلك التناقض بين المبادئ المسطَّرة والثاوية في ثنايا الوعي واللاوعي، وبين الواقع الذي ابتعد عنها. فبالنسبة للكاتب لا تُحدَّدُ أميركا أو تعرف، انطلاقاً من مدى تقيدها بالمبادئ المسطرة التي وضعها الآباء المؤسسون، بقدر ما تعرف بمدى انتهاكها لمثلها العليا وخيانتها لتصوراتها الدينية. وهكذا تصبح الولايات المتحدة في نظر المؤلف نتاجاً للجهود الحثيثة التي بذلتها على امتداد تاريخها لردم الفجوة بين المتعالي من القيم والمثل وبين الواقع المثخن بالتناقضات. وبهذا المعنى تصبح مقولة "جميع البشر خلقوا سواسية"، مقولة جوفاء خالية من معناها إذا ما عزلت عن سنوات العبودية الطويلة في أميركا، وويلات الحرب الأهلية، فضلاً عن حركة الحقوق المدنية. ولأن أميركا بنيت على أساس لاهوتي، يلتقط المؤلف هذه النقطة ليضيء جانباً آخر في تشكيل الوعي الأميركي المعاصر، مشيراً إلى التجربة التي أقدم عليها الآباء المؤسسون في البدايات الأولى للاتحاد عندما شبهوا أنفسهم بأبناء إسرائيل الذين قطعوا عهداً مع الرب على التقيد بتعاليمه على أن يتولى محاسبتهم في الأخير. الاختلاف الوحيد الذي يبرزه المؤلف هو أن أميركا لم تقطع عهدها مع الله، بل قطعته مع نفسها وتعدت بمراجعة مسيرتها وتقييم مدى التزامها بالمبادئ التي سطرتها في نشأتها الأولى. ومنذ ذلك الوقت وأميركا تحاسب نفسها وتمحص أعمالها في مراجعة دائمة ومستمرة لمسيرتها على ضوء المثل العليا التي وضعتها نصب عينيها. ولم تتردد الولايات المتحدة في إحالة نفسها على محكمة المراقبة الصارمة للتأكد من مدى التزامها بالتعاليم السامية. لكن ما دام الله كفيلاً بالنظر في شؤون عباده يوم الحساب وفرز الصالح من الطالح، فمن يتولى اليوم هذه المسؤولية في حالة أميركا ومن يقوم بدور المراقبة والحساب؟ يرى المؤلف أن دور المحاسبة لن يضطلع به في حالة أميركا سوى من يطلق عليه "النبي الأميركي"، موضحاً قصده من هذا المفهوم بالقول: "لا يرتبط النبي بمحاولة استشراف المستقبل والتكهن بأحداثه، بقدر ما يرتبط بالماضي، حيث هدفه الأساس هو محاسبة أميركا، كما يحاسب الرب أبناء إسرائيل". وفي هذا الإطار يسوق المؤلف أسماء أميركية وازنة لديها صدى في التاريخ الأميركي، مثل أبراهام لنكولن ومارتن لوثر كينج، كنموذجين لمن يسميهم هو بـ"الأنبياء الجدد" الذين يتولون الدفاع عن المبادئ الأميركية والحيلولة دون الخروج عنها. وبعبارة أخرى يحاول المؤلف أن ينيط بالنخبة السياسة، لاسيما بعض قاماتها البارزة، دور ضمير أميركا الحي الذي يستيقظ بين الفينة والأخرى لتصحيح المسار كلما أوشك على أن يحيد عن الطريق المرسوم. وبالرجوع إلى لنكولن يورد المؤلف قصة الحرب الأهلية التي بدأها الرئيس الأميركي الأسبق دفاعاً عن قيمة الحرية التي كانت أحد المبادئ المؤسسة للولايات المتحدة. لكن بمضي السنوات غفى الضمير الأميركي وعلاه صدأ الأيام رغم مركزية القيم الأميركية في حياة الأميركيين. وبينما توارى في هذه المرحلة دور الرجل السياسي، لاسيما خلال عقد الستينيات، بدأ يصعد نجم "نبي" من نوع آخر يتولى مهمة محاسبة أميركا، وقد تمثل هذه المرة في الفنان أو المثقف. تلك الشريحة الجديدة من الشعب الأميركي ساهمت من موقعها، سواء في السينما أو الغناء أو في الصحافة والجامعة، في تحصين المواطن الأميركي من السقوط في العبث وافتقاد الهدف الذي يضفي المعنى على وجوده. فلطالما أشار الكُتاب والمفكرون إلى مشكلة افتقاد الهدف في الحياة الأميركية وتحول الناس إلى مجموعات بشرية تعيش في بنايات إسمنتية منفصلة عن مشروعها المؤسس الذي حدده ماركوس في تجسير الهوة القائمة بين المثل الأميركية من جهة والواقع الذي ما فتئ يبتعد عنها من جهة أخرى. هذه العلاقة الجدلية بين الطرفين والصراع المتواصل من أجل تثبيت القيم والمثل، رغم العثرات والإخفاقات، هو ما يمنح أميركا قوتها ويضمن تماسك مواطنيها. لكن إضافة إلى ذلك، يشير المؤلف إلى جانب آخر مهم من الذهنية الأميركية يساعدنا على تفسير بعض أوجه السياسة الخارجية الأميركية، لاسيما فيما يتعلق بالشرق الأوسط. فإذا كانت أميركا تعتمد، في أساطيرها المؤسسة لكيانها، على مفردات دينية، من خلال ما أومأ إليه المؤلف من مفاهيم مثل "أرض الميعاد" و"الشعب المختار" ذي المهمة المحدد ةمن قبل الرب على الأرض... فإن ذلك يجعلها أقرب إلى إسرائيل من غيرها، لاسيما في ظل النظرة التوراتية التي يحملها الأميركيون لليهود باعتبارهم اختيروا للعيش على "أرض الميعاد"، كما كلف الأميركيون بالمهمة ذاتها في العالم الجديد. زهير الكساب الكتاب: صيغة الأشياء المقبلة: النبوءة والصوت الأميركي المؤلف: جريل ماركوس الناشر: فرار شتراوس جيرو تاريخ النشر: 2006