شهدت القمة الاقتصادية لدول شرق آسيا, والتي انعقدت في سنغافورة عام 1999, حدثاً استثنائياً وبالغ الأهمية. فقد كان الجانب المسيطر عليها هو الأزمة المالية التي كانت تمر بها دول المنطقة وقتئذ, إلا أنها وفرت في ذات الوقت منبراً استثنائياً لتبادل غير مسبوق بين من يمثلون وجهة نظر واشنطن ورؤيتها المجمع عليها للعولمة -من أمثال ستانلي فيشر الذي كان يشغل منصب نائب المدير التنفيذي الأول لصندوق النقد الدولي- وأولئك الذين ينظرون إلى العولمة من منظور جد مختلف, مثل رئيس الوزراء الماليزي حينها مهاتير محمد, الذي لم يتردد في فرض قيود على حركة وتدفقات رؤوس الأموال إلى بلاده, وكذلك جوزيف ستجليتز, الخبير الاقتصادي الأول بالبنك الدولي. ورغم أن غالبية الجمهور الحاضر في تلك القمة, كان من المديرين ورؤساء الشركات الغربيين, فإنها شهدت تعاطفاً ملحوظاً مع التيار الثاني الممثل للرؤية المختلفة للعولمة, أي التيار الذي يمثله مهاتير محمد وجوزيف ستجليتز. وجاءت تلك القمة بمثابة تهيئة لأجواء الحوار المغاير, الذي طالما قدّر له أن يسيطر على سلسلة الحوارات والمفاهيم الجديدة التي نشأت عن العولمة منذ تلك القمة. وكان لجوزيف ستيجليتز نصيب وافر في هذا التحول الجوهري الذي طرأ على مفاهيم العولمة التقليدية السائدة حتى لحظة انعقاد القمة الآسيوية المذكورة. وقد اعتمد هذا الخبير الاقتصادي على عزمه وجرأته على شن حملة قوية من الانتقادات لصندوق النقد الدولي, هي التي مهدت له الطريق للمضي قدماً في رحلته الجديدة الباحثة عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية عبر العولمة نفسها. ووفرت له خبرته الاقتصادية في منطقة شرق آسيا, أساساً صلباً ومتيناً لإقامة قناعته القائلة بفشل النموذج الأميركي للعولمة, في مقابل نافذة الأمل الجديدة التي تفتحها الرؤية الشرق آسيوية للعولمة, مثلما عبر عنها مهاتير محمد وغيره في تلك القمة. ووفقاً لملاحظة ستيجليتز, فإن منطقة شرق آسيا تمثل قصة نجاح باهرة للغاية, تقابلها قصة خيبة كبيرة في غالبية البلدان النامية, سواء في أفريقيا أم أميركا اللاتينية أم الشرق الأوسط. وبلغة الأرقام، فقد شهدت الاقتصادات الآسيوية نمواً سنوياً يقدر بنحو 5.9% خلال الثلاثين عاماً الماضية, بينما كان الأداء الاقتصادي لقارتي أميركا اللاتينية وأفريقيا خلال الفترة نفسها, ضعيفاً للغاية إلى حد انحدر معه معدل دخل الفرد بما نسبته 0.2% سنوياً! ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق, انحدر أداء الاقتصاد الروسي إلى أسوأ مما كان عليه, بنسبة تصل 15% سنوياً. ويستنتج ستجليتز ملاحظة مهمة، من خلال مقارنته بين تجربة فشل الاقتصاد الروسي الذي اتبع النهج الغربي في تطبيقه للعولمة إثر انهيار الاتحاد السوفييتي من جهة, وبين تجربة النجاح الباهر التي حققها الاقتصاد الصيني, والذي اتبع نهجه الخاص في تطبيقه لاقتصاد السوق ومفاهيم العولمة الحديثة، من جهة أخرى. ويصوغ المؤلف ملاحظته تلك, بالقول إنه بدلاً من الركون للمفاهيم والمبادئ الأنجلو- ساكسونية التي بنيت عليها مفاهيم العولمة الغربية, فقد اختطت منطقة شرق آسيا –بما فيها الصين- لنفسها نهجاً مغايراً تماماً, يقوم على فكرة مركزية جهاز الدولة, وعلى الحاجة الوطنية لحماية الصناعات ذات الصلة بتربية الأطفال, ومقاومة أي تسرع لتحرير أسواق المال والعملات الوطنية. ومهما يكن من أمر, فإن بعضاً من قيمة وأهمية هذا الكتاب إنما يكمن في حجية ستجليتز نفسه كاسم وعلم اقتصادي بارز. فبصفته رئيساً سابقاً للمجلس الاستشاري الاقتصادي للرئيس كلينتون, وبحكم كونه اقتصادياً أول بالبنك الدولي, فهو لاشك يعلم جيداً عن الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد العالمي, وآليات أدائه. وفي الوقت ذاته فهو ممن لا يطعن في معرفتهم النظرية بعلم الاقتصاد, كونه حائزاً على جائزة نوبل للاقتصاد. وتسهم كل هذه الخصائص والمعارف معاً, في إعطاء وزن كبير لهذا النهج الراديكالي الجديد الذي بدأ تبنيه في تطبيقات المفاهيم الاقتصادية الحديثة, وفي مقدمتها مفهوم العولمة بالطبع. وغني عن القول إن كل حركة سياسية تحتاج إلى منظرين وقادة فكريين يسهمون في التعبير عن فلسفتها وتماسكها الفكري وأجندتها ومتطلباتها. وبهذه الصفة الأخيرة فقد برز ستجليتز باعتباره ممثلاً فكرياً لهذا التيار, سواء في الدول النامية أم المتطورة على حد سواء, مع العلم بأنه تيار شديد الانتقاد لصيغة العولمة السائدة حالياً. والمشكلة التي تواجهها غالبية الناس هي أن مجموعة القضايا التي تثيرها العولمة, تتسم بطابعها الفني المعقد الصعب وغير المألوف بالنسبة لهم. وهذه هي المسائل التي تصدى لها ستجليتز عبر كتابه هذا, الذي يرى فيه شكلاً آخر ممكناً لعولمة أكثر عدالة من الصيغة السائدة حالياً. وعلى حد قوله فإن معظم أجندة العولمة السائدة هذه, قررها الغرب واليابان, أكثر من غيرهما. أما الدورة التجارية لمجموعة الأورجواي, فقد بدت كلاسيكية وبالية في نظر ستجليتز. ولعل من أهم الإنجازات المعرفية التي حققها ستجليتز في كتابه هذا, تصديه لشرح وتوضيح هذه المفاهيم ذات الصلة بالاتفاقيات التجارية والاحتياطات النقدية؛ اتفاقية كيوتو, قوانين المنشأ, وغيرها، مع تبيان الطريقة التي تؤثر بها هذه المفاهيم على إعادة تشكيل عالمنا الحديث. بل يبين المؤلف أن تشكيل عالم جديد كهذا, قد أضحى ممكناً أكثر من أي وقت مضى. عبد الجبار عبد الله الكتاب: كيف تنجح العولمة تأليف: جوزيف ستيجليتز الناشر: مطبعة "ألان لين" تاريخ النشر: 2006