يقدم كتاب: "حياة إمبراطورية في المدينة الزمردية: داخل المنطقة الخضراء بالعراق"، لمؤلفه راجيف تشاندراسيكاران، عرضاً غير مسبوق للحياة في المنطقة الخضراء في العراق، وهي قطاع مسوَّر من بغداد، يزخر بالأشجار الباسقة والحدائق الغناء والقصور المنيفة التي تتلألأ فيها مياه حمامات السباحة اللازوردية تحت أشعة الشمس، والتي كانت تضم قصر صدام حسين الرئاسي في بغداد، وأصبحت مقراً لسلطة الاحتلال بعد الغزو الأميركي للعراق، وتستخدم الآن مقراً لقيادة قوات الاحتلال الأميركي في العراق. ويأخذنا مؤلف الكتاب، سيكاران، الرئيس السابق لمكتب صحيفة "واشنطن بوست" في بغداد، والذي أمضى في العراق فترة أطول من تلك التي قضاها أي صحفي أميركي آخر، ودخل إلى المنطقة الخضراء كي يكشف لنا كيف تحولت إلى قطعة من الأرض لا علاقة لها بحقائق الحرب ولا حقائق الواقع في بغداد ما بعد الغزو. يقول المؤلف إن الواجب الخاص بإعادة بناء أمة مدمرة، يتنافس في هذه المنطقة مع مباهج الحياة فيها، خصوصاً بعد أن حولتها سلطة الاحتلال إلى قطعة مصغرة من أميركا، وأقامت بها عدة بارات تتكدس فيها زجاجات وعلب الجعة الباردة، كما أنشأت فيها مرقصاً تتبختر النساء فيه وهن يرتدين "شورتات" ساخنة، وداراً للسينما تعرض أفلاماً حربية أميركية، ومطعماً فاخراً حافلاً بما لذ وطاب من المأكولات، ومركز تسوق تُباع فيه أفلام جنسية، ومساحة كبيرة لانتظار السيارات تربض فيها صفوف من سيارات الدفع الرباعي المتألقة، ومصبغة عصرية لتنظيف الملابس بالبخار... وغيرها من الخدمات والمرافق الحديثة التي تدير الجزء الأكبر منها مؤسسة "هاليبيرتون". ولا ينسى المؤلف أن يشير إلى أن تلك المنطقة محظور دخولها على العراقيين خوفاً من أن يقوم أحدهم بتفجيرها. ويخبرنا المؤلف، معتمداً في ذلك على مئات المقابلات التي أجراها والوثائق الداخلية التي راجعها، عن قصة الناس والأفكار التي سكنت المنطقة الخضراء خلال الاحتلال، ابتداءً من بول بريمر الذي اختير لا لشيء سوى ولائه لجورج بوش، وانتهاء بكتيبة الخبراء الذين تم التعاقد معهم لزرع فكرة أن أميركا قادرة على بناء ديمقراطية "جيفرسونية" (نسبة إلى توماس جيفرسون أبي الدستور الأميركي) في دولة شرق أوسطية كالعراق الذي أنهكته الحروب وسنوات الحصار. في الفراغ السياسي الذي ساد فترة ما بعد الغزو، تجاهل بريمر ما قاله له أصدقاؤه العراقيون عما يحتاجه بلدهم، وسعى بدلاً من ذلك إلى تنفيذ حلول من وضع "المحافظين الجدد"، لا علاقة لها باحتياجات العراق أو واقعه أو ظروفه؛ مثل فرض ضريبة موحدة، وبيع أصول الحكومة العراقية، وإنهاء العمل بنظام البطاقة التموينية... ولم يركِّز بريمر على الاحتياجات الحقيقية أو المشروعات العملية، بل راح هو ومساعدوه في سلطة الاحتلال يضيعون وقتهم في رسم خطط وسياسات غير واقعية، مثل تشريع قانون جديد للمرور في العراق، وآخر لحماية تصاميم الشرائح الإليكترونية الدقيقة، بدلاً من رسم خطط وصياغة سياسات من أجل إعادة بناء المنازل المدمرة والمنهوبة، واستعادة إنتاج الطاقة الكهربائية إلى ما كان عليه. وكان لابد من أن تؤدي تلك المبادرات غير الواقعية بل والمُضحكة أحياناً، إلى إثارة غضب السكان المحليين وتأجيج نيران التمرد العراقي. ويورد المؤلف تفاصيل المحاولة التي قام بها "برنارد كيريك"، القائد السابق لشرطة نيويورك، لتدريب الشرطة العراقية، كما يلقي الضوء أيضاً على مجموعة من المخالفات القانونية غير المعروفة كثيراً، مثل تعيين شاب عراقي في الرابعة والعشرين من عمره، لم يسبق له أن عمل في مجال الحسابات من قبل، مسؤولاً عن إعادة تأهيل سوق الأوراق المالية في بغداد، ودفع ملايين الدولارات لمقاول ليست لديه أية خبرة في المجال الأمني لحراسة مطار بغداد المغلق، ودفع رشاوى لأميركيين كي يقدموا يد المساعدة في إثناء العلماء العراقيين عن الفرار إلى إيران... ومنع الكثير من الأميركيين الأكفاء الراغبين في العمل في العراق بسبب آرائهم المناهضة لسياسات الإدارة، واستبعاد خبراء لديهم خبرة عريضة في الشرق الأوسط واستبدالهم بأشخاص آخرين أقل كفاءة وخبرة وتأهيلاً، لمجرد أنهم من أنصار الحزب الجمهوري، إلى بعض التصريحات الغريبة التي تدل على جهل فاضح وافتقار للياقة؛ مثل ذلك التصريح الذي قال فيه جنرال أميركي، تعليقاً على ما كتب في إحدى الصحف العراقية، من أن أصوات طائرات الهليوكوبتر الأميركية التي تحلق على ارتفاعات منخفضة تفزع الأطفال العراقيين: "إن الأطفال الذين تخيفهم أصوات طائرات الهليوكوبتر التي تحلق ليلاً يجب أن يقدروا أصوات تلك الطائرات، لأنه الصوت الذي يحمل لهم الحرية". ويؤكد الكاتب أن بريمر لم يكن هو وحده المسؤول عما حدث في العراق من أخطاء رهيبة بعد الغزو، وإنما كان له شركاء سواء في بغداد أو في واشنطن. ويسرد بالإضافة إلى ما سبق عدداً آخر من السياسات الفاشلة لبريمر، قبل أن يصف هروبه الفاضح على متن طائرة هليوكوبتر من بغداد عام 2004 قبل الموعد المحدد لمغادرته بيومين. كتاب يقدم صورة مذهلة عن مكان شبه أسطوري لعبت فيه حماقات الحكومة الأميركية دوراً كبيراً إلى أن انفجر كل شيء في وجهها آخر المطاف، على النحو الذي نراه حالياً. ويؤكد المؤلف في نهاية الكتاب أنه رغم أن موضوع غزو العراق ذاته، لا يزال مطروحاً للمناقشة حتى الآن، فإن مسألة سوء الإدارة الأميركية لمرحلة ما بعد الغزو، ليست كذلك. أما كتابه هذا فمن المؤكد أنه سيظل موضعاً لحوار واسع لفترة طويلة قادمة. سعيد كامل الكتاب: حياة إمبراطورية في المدينة الزمردية: داخل المنطقة الخضراء بالعراق المؤلف: راجيف تشاندراسيكاران الناشر: نوبف تاريخ النشر: 2006