أصبحت جهود محاربة الفساد تتبوأ مكانة مهمة في الأجندة السياسية وطلباً شعبياً متنامياً على جانبي مضيق تايوان. فالاحتجاجات الجماهيرية التي شهدتها تايوان مؤخراً تظهر بما لا يدع مجالاً للشك جرأة الشعب واتهامه جهراً للرئيس بتحمل مسؤولية الفساد المستشري في البلاد مشيرين بالبنان له ولمعاونيه وأفراد عائلته المتورطين في فضائح مرتبطة بتجاوزات مالية. لكن وعلى الجانب المقابل لمضيق تايوان، مازالت الصين تفضل معالجة قضية الفساد بالاعتماد على الأنشطة السرية ذات الدوافع السياسية لما تطلق عليهم بالمفتشين المنضبطين. ومع ذلك يعلق المراقبون آمالاً عريضة على الصعود السلمي للصين كقوة عالمية يعتد بها على الساحة الدولية تساهم في خدمة مصالح الشعب الصيني والحفاظ على السلام العالمي. وقد أصبح الاعتقاد راسخاً بأن صعود الصين السلمي مرهون بنجاحها في تحقيق التحول السياسي وتغيير مسارها لإقرار سيادة القانون وإحلال الديمقراطية. والأهم أن مفتاح هذا التحول يكمن في جمهورية الصين الديمقراطية المتواجدة على جزيرة تايوان. والواقع أن الصين منذ إمبراطورها الأول كين شيهوانج، وهي خاضعة لسلطة مركزية استبدادية ولم يسهم قدوم جمهورية الصين عام 1912 في إحداث أي تغيير يذكر في أنماط الحكم وآلياته التي ظلت بعيدة كلياً عن الديمقراطية. لكن في ظل سيادة ظروف غير ملائمة تمثلت في توالي الحروب سواء في الداخل، أو الخارج، وهيمنة أمراء الحرب، تأخرت مسيرة الصين وتعطل تقدمها نحو إرساء التغيير المرغوب في بنيتها السياسية. وجاءت الضربة القاصمة عام 1949 عندما شهدت الصين ثورة قادها المزارعون بزعامة ماوتسي تونج بتأثير من الأيديولوجية الشيوعية، حيث أطيح بنظام جمهورية الصين وطردت إلى تايوان بعد مجيء نظام جديد أطلق على نفسه جمهورية الصين الشعبية. وبالطبع قام ماوتسي تونج الذي نصب نفسه زعيماً جديداً للصين، بقمع التطلعات الديمقراطية الوليدة وإدامة تقاليد الصين الاستبدادية في الحكم. ورغم إطلالة الصين الجديدة على العالم كقوة كبرى واحتمال تغيير مسارها السياسي، فإنه لا يوجد ما يضمن نجاح جمهورية الصين الشعبية في الانتقال الديمقراطي والقطع مع ماضيها السحيق. ولحسن الحظ هناك من المؤشرات ما يبعث على بعض التفاؤل، لا سيما وأن "جمهورية الصين الديمقراطية"، قد نجحت منذ عام 1949 في الاستمرار على قيد الحياة فوق جزيرة تايوان وسط ازدهار اقتصادي قل نظيره. وفي هذا الإطار استطاع التايوانيون بكل اعتزاز، أن يثبتوا طيلة العقود الماضية أن التصورات الغربية حول الرأسمالية والحرية وسيادة القانون يمكنها أن تنتعش جنباً إلى جنب مع الثقافة التايوانية. وهكذا نجحت تايوان في التحول من نمط الحكم الشمولي وسيطرة الحزب الواحد إلى نظام ديمقراطي تشارك فيه جميع القوى السياسية والمدنية في إدارة المجتمع، دون إغفال التأثيرات الخارجية التي رعت الديمقراطية التايوانية الوليدة ووفرت لها الحماية والمساندة. ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى تجربة تايوان الناجحة في التوفيق بين النمو الاقتصادي والتحول السياسي، باعتبارها قصة نجاح يمكن أن تكون مثالاً يحتذى به لجميع الصينيين، سواء في الوطن الأم (البر الصيني) أم في جزيرة تايوان. لكن التجربة التايوانية مع الأسف لم تحظَ بما تستحقه من اهتمام وتعرضت للتهميش والإقصاء سواء من قبل القادة في الصين، أو نظرائهم في تايوان. فبدلاً من النظر إلى تايوان على أنها قوة حقيقية للمعارضة السياسية ونموذج ناجح للتغيير السياسي، نظرت القيادة الصينية إليها كنظام محلي خاضع للحماية الأجنبية ويتطلع إلى الاستقلال. وفي المقابل أدى عناد الصين وإصرارها على عدم الانتقال الديمقراطي، إلى تأجيج المطالب الانفصالية لتايوان. يضاف إلى ذلك أن الصين ما فتئت تصور تايوان على أنها معادية لها وخائنة للوطن الأم، ما يجعل من مسألة الاستفادة من تجربة تايوان السياسية أمراً بعيد المنال على الأقل في الظروف الراهنة. والحال أنه يجب وضع حد للتوتر القائم في العلاقات بين الطرفين ووقف التنافس السياسي العقيم في أفق تحفيز الانتقال الديمقراطي للصين. ومن ناحيتها، يتعين على القومية الصينية أن تضطلع بدورها الفعال في ضبط قوة الصين الصاعدة وتوجيهها نحو الديمقراطية وسيادة القانون، بدل الدفع تجاه عسكرة البلاد وإبراز وجهها الإمبريالي. أما بالنسبة لتايوان فهي مطالبة أكثر من أي وقت مضى بمساعدة الصين على سلوك الطريق الديمقراطي وتسهيل صعودها السلمي وتحمل مسؤوليتها العالمية، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لضمان استمرار النموذج التايواني دون أخطار. ولا ننسى أنه فقط بتقديم تايوان يد العون إلى الصين لتتخطى مرحلتها الراهنة بنجاح، تستطيع تأمين الدعم الأميركي وتقوية علاقاتها الثنائية مع واشنطن. لكن حتى تتمكن تايوان من مساعدة الصين في انتقالها الديمقراطي، لا مفر من التضحية بمطالبها الانفصالية والتفكير في حلول بديلة. وفي هذا السياق تشكل تصريحات زعيم المعارضة التايواني "ما ينج جو" بداية جيدة؛ فهو وإن كان مازال يصر على "صين واحدة"، فإنه يضع شروطاً وجيهة أمام انضمام بلاده إلى البلد الأم: على الصين الشعبية أن تعتنق الديمقراطية أولاً، وأن يخضع قادتها للمراقبة الشعبية. والأكثر من ذلك أعلن العديد من المسؤولين في الحزب الحاكم المعروفين بدفاعهم المستميت عن استقلال تايوان، بأن الوحدة مع الصين هي أحد خياراتهم. أما الولايات المتحدة فيتعين عليها المساعدة في إنجاح هذا المنحى وتشجيع النخبة السياسية في تايوان على بلوغ توافق حول الوحدة المشروطة مع الصين، وفي نفس الوقت تجديد الالتزام الأمني مع تايوان لضمان استمرار نموذجها الديمقراطي. هذا وسيشكل النموذج الفدرالي في حال تطبيقه، كآلية لانضمام تايوان إلى الصين، فرصة تظهر من خلالها بكين حسن نيتها في عدم العودة إلى الحكم المركزي البائد! في لينج وانج ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ الشؤون الدولية في معهد جورجيا للتكنولوجيا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"