الحكم القضائي الذي أصدرته إحدى المحاكم في السعودية بفسخ عقد زواج استناداً إلى عدم كفاءة نسب الزوج مع نسب زوجته، يطرح وبإلحاح مسألتين مهمتين: تقنين الشريعة أولاً، وفصل الشريعة باعتبارها قانون الدولة، عن الفكر الديني. الحكم القضائي المذكور يقدم مثالاً نموذجياً على كيف أن الفكر الديني، أو الثقافة الدينية المتداخلة مع أعراف وقيم اجتماعية قديمة، وليس نصوصاً شرعية أو قانونية واضحة، هي التي كانت الفيصل في القضية المطروحة. أقصد بالفكر الديني هنا في مقابل الدين باعتباره يتمثل في نص يشكل المرجعية الأولى والأهم في عملية التشريع. الفكر الديني يمثل قراءة معينة للنص، وليس النص ذاته. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن درجة تطابق القراءة مع معنى النص، ومع مقاصده ليست واحدة في كل الحالات. الحكم المذكور يكشف كيف أن العامل الحاسم الذي فصل في القضية ليس نصاً من القرآن، ولا من السنة، وليس نصاً قانونياً مستمداً من- أو يستند إلى- نصوص شرعية واضحة. العامل الحاسم كان الفكر الديني، أو الثقافة الدينية من حيث أنه قرأ النص وأوله بناءً على العرف العربي القديم في الزواج . العرف مصدر من مصادر التشريع، لكن مع ملاحظة أنه مصدر إحتياطي أو تبعي يلي النص الشرعي. انطلاقاً من ذلك هناك شروط لاعتماد العرف في الحكم؛ منها أن لا يكون مخالفاً لنص شرعي، وأن لا يكون عرفاً فاسداً. العرف الذي على أساسه صدر الحكم المذكور يفتقد إلى هذين الشرطين. فهو أولاً يتعارض مع نصوص شرعية واضحة وقطعية، أبرزها ما جاء في سورة الحجرات: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير". بالنسبة للسنة النبوية يلاحظ أن ما ورد فيها من أحاديث عن كفاءة النسب ضعيفة الإسناد، وبعضها يتعارض مع بعضها الآخر. مثال ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير...". في هذا الحديث الكفاءة في الدين، وليست كفاءة النسب هي المعيار. في المقابل، هناك حديث آخر تتراجع فيه هذه الأولوية لكفاءة الدين لصالح كفاءة النسب أو الصنعة. فعن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "العرب أكفاء بعضهم لبعض قبيلة لقبيلة وحي لحي ورجل لرجل, إلا حائك أو حجام". كيف يمكن التوفيق في هذه الحالة؟ هنا ينبغي الانتباه إلى ما ذكرته في بداية هذه الفقرة من أن أحاديث كفاءة النسب ضعيفة. وقد نقل الشوكاني في أوطاره التعليقات التالية حول الحديث الأخير. يقول "وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث فقال: هذا كذب لا أصل له وقال في موضع آخر باطل ورواه ابن عبد البر في التمهيد من طريق أخرى عنه قال الدارقطني في العلل: لا يصح ا هـ. وفي إسناد ابن عبد البر عمران بن أبي الفضل قال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات, وقال ابن أبي حاتم: سألت عنه أبي فقال: منكر...". ويضيف الشوكاني ملاحظة ذات دلالة هنا. يقول: "وقد حدث به (أي بالحديث المذكور) هشام بن عبيد الله الرازي فزاد فيه بعد: {أو حجام أو دباغ}, قال: فاجتمع به الدباغون وهموا به وقال ابن عبد البر: هذا (أي الحديث) منكر موضوع. بناء على ذلك يكون حديث "كفاءة العرب بعضهم لبعض" غير صحيح على الأرجح. تعزز ذلك أمور عدة. الأول تجاهل القرآن بشكل كامل لموضوع كفاءة النسب، وتأكيده المستمر، على مبدأ المساواة بين الناس، وأن معيار التمميز بينهم هو الدين والإيمان والتقوى، وليس الجنس أو النسب. الأمر الثاني هو السنة النبوية الفعلية من حيث أنها تتطابق بشكل كامل مع ما جاء في القرآن، وليس مع ما جاء في بعض الأحاديث عن كفاءة النسب. والسنة الفعلية أكثر وثوقية، وبالتالي أرجح من السنة اللفظية. فمثلاً يصعب الإختلاف حول أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تتزوج مولاه أسامة بن زيد. ويستحيل الاختلاف حول أن النبي زوج ابنة عمته، زينب بنت جحش، من زيد بن حارثة، مولاه ووالد أسامة. ليس هذا فقط، بل إن النبي، سيد بني هاشم، وسيد المرسلين، تزوج من زينب بعد أن طلقها زيد. أي أنه تزوج من مطلقة مولاه. ما هو موقع "كفاءة النسب" أمام مثل هذه السابقة؟ الأمر الثالث أن الأقوال والآراء المنسوبة للصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، فيما يتعلق بكفاءة النسب ليست متصلة. بل كثيراً ما تأتي متناقضة ومضطربة. مثال ذلك ما ذكره ابن قدامة في المغني من أن الرواية اختلفت عن الإمام أحمد في اشتراط الكفاءة لصحة النكاح. ففي رواية عنه من ناحية أنها شرط له. وينقل عنه في هذا السياق قوله: "إذا تزوج المولى العربية فرق بينهما"، وقوله: "لوكان المتزوج حائكاً فرقت بينهما". وفي رواية ثانية عن أحمد أن الكفاءة ليست شرطاً في النكاح. ويضيف ابن قدامة: "وهذا قول أكثر أهل العلم". من ناحية أخرى، العرف العربي القديم بالتمييز بين الناس في الدرجات والحقوق، على أساس النسب عرف فاسد لأن معيار التمييز فيه يتعلق بالأصل والعرق، وليس بالثقافة والأخلاق والدين، وبالتالي فهو معيار عنصري. وهو بذلك يتناقض مع المعيار الثقافي الإنساني الذي جاء به القرآن. الفروقات بين الناس في القرآن محصورة إما على أساس من العلم، "يرفع الله الذين أوتوا العلم منكم درجات"، وإما على أساس من التقوى، "... إن أكرمكم عند الله أتقاكم...". وفي الحديث، "لافرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى". في حكمه المذكور، اعتمد القاضي على نقولات منسوبة لبعض الصحابة، أو التابعين، أو أئمة الفقه في المذهب. يقول القاضي في حكمه: "ولأن ما نقل عن صاحب الكشاف عن الأمام أحمد يدل على أن المكافأة مرتبطة بالعرف ولأن العرف مستقر بعدم المصاهرة بين المتفاوتين نسباً ولأن في بقاء المصاهرة مع المدعى عليه ضرر على المدعيين، حيث يزهد في مولياتهم ممن هم في طبقتهم ولأن هذا موجب للفسخ ..". إلى أن يقول: "ولأن انتسابه عيب يعود بالضرر على بقية الأولياء... لذا فقد حكمت حضورياً بفسخ نكاح المدعى عليه من المرأة، وعليها العدة الشرعية حسب حالها اعتباراً من تاريخ الحكم، ويشمل هذا الحكم التنفيذ المعجل بحيث يفارق المدعى عليه المرأة حتى انتهاء القضية وليس هذا الحكم اثباتاً لنسب أحد المتداعيين ولا نفياً له ولا إثباتا لصفة ولا نفيها عنهما ولا عن غيرهما...". أول ما يلفت النظر في هذا الاستشهاد خلوه من أي نص من القرآن أو السنة. والسبب واضح؛ لا يوجد في القرآن نص حول ما يعرف في الفقه بـ"الكفاءة في النسب". أما بالنسبة للسنة فقد تم تناول ذلك أعلاه. والملاحظة الثانية أنه اعتبر نسب الزوج "عيبا يعود بالضرر على بقية الأولياء". والمعيار الذي اعتمده القاضي في ذلك هو العرف. ماذا عن إنسانية الزوج؟ وماذا عن مواطنته؟ ثم ماذا عن إسلامه؟ هنا يتبدى التناقض بين كل هذه المفاهيم، واضطرابها، من دون ضابط قانوني أو أخلاقي. الحكم يضع الدولة والشريعة في مواجهة الفكر الديني. حيث يبدو الفكر الديني هو الحاكم، وليس الشريعة أو القانون. وهو بذلك لا ينتمي إلى الدولة التي صدر من داخل مؤسستها القضائية. مرجعيات الحكم كلها تعود إلى آراء لفقهاء وأئمة بعضهم توفي قبل قيام الدولة السعودية، بما لا يقل عن خمسة قرون. هذا فضلاً عن أن الكثير من هذه الآراء متناقضة. ولو عرضت القضية على قاض آخر لربما أصدر حكماً مختلفاً. الأمر الذي يؤكد ضرورة تقنين الشريعة، وتوحيد القوانين بحيث يعرف الجميع حقوقهم وواجباتهم بناء على نصوص قانونية موحدة يلتزم بها الجميع، وتنطبق على الجميع. أخيراً لابد من الإشارة إلى أن إحدى قنوات التلفزة السعودية عرضت الأسبوع الماضي برنامجاً خاصاً عن موضوع الحكم المذكور. ولما له من حساسية اجتماعية، تأخر بث البرنامج. لكن حقيقة أنه رأى النور، وأعيد بثه أكثر من مرة، مؤشر على أن حكومة الملك عبدالله، رغم أنها تحترم القضاء والقضاة، فإنها لا تتفق دائماً مع ما يصدر عنهم من أحكام.