المفاجأة الكبيرة للرئيس بوش هذه الأيام، تأتيه من بين يديه ومن خلفه؟ فبينما هو "يحتفل" بالذكرى الخامسة للعدوان على أمن الولايات المتحدة، ويأمل أن تنتعش خطته في مواجهة الإرهاب ليكسب بها مناعة في الداخل وقوة عسكرية في الخارج بدعم أصدقاء له مثل توني بلير وغيره، وإذ بأكثر من مئة رئيس وممثل لدولة يجتمعون عند عدوه اللدود "كاسترو" على بعد بضعة أميال في كوبا، يبعثون الحياة في الرجل المريض، أو يتعهدون باستمرار سيرته، حتى لو قضى، بروح جديدة يحملها السياسي المحنك "راؤول كاسترو"، كما تتعهده بالولاء والمحبة شخصية صاعدة بجواره مثل هوجو شافيز رئيس فنزويلا الذي يتنافس في أميركا الجنوبية على مقعدها لمجلس الأمن لو صلح حاله! ها هي كوبا إذن تعود إلى المسرح بعد حوالى نصف قرن ليس شفقة على صحة كاسترو كما يصورها البعض، ولكن لأنها أصبحت تملك ولاءً وإخلاصاً مباشرين من أكثر من نصف سكان ودول أميركا الجنوبية، حتى "هاييتي" الأقرب إلى شواطئ أميركا الشمالية بدخولها حركة عدم الانحياز هذا العام تحت قيادة كوبا. وهي تمتد في أفريقيا ثانية، وهذه المرة بثلاثة آلاف طبيب، وآلاف مثلهم يدرسون في الطب في كوبا لأنها تملك الجائزة العالمية في تعليم الطب ومستوى الخدمة الصحية، بل وتمتد بإعلان اكتشافات البترول الذي تسعى إليه الصين وماليزيا بينما تمتنع الشركات الأميركية بسبب المقاطعة. من هذا يصعب على الرئيس بوش أن يراهن على "الرجل المريض" أو أي دولة مجاورة، حيث ستعلو أصوات حلفاء أمثال شافيز و"مولاريز" فوق أصوات المعارضين المتمددين على شواطئ فلوريدا يتوقعون "التغيير" في كوبا دون أمل. وبينما الرئيس بوش وحلقات الإدارة مشغولون بهذا الهم، وإذا بالبابا "بنديكت" يثير عليه "الزوابع" من العالم الإسلامي الذي يحاول طمأنته على أفغانستان والعراق ودارفور ضد "المتطرفين الفاشيين" الذين يثيرون بإرهابهم قلق العالم من حوله، وإذا بالزوابع تأتيه من حيث لا يتوقع بمواقف قمة مسيحية كفيلة بأن تثير المعتدلين والموالين بقدر ما تثبت للمتطرفين "دعاواهم" ضد العالم الغربي في جملته فضلاً عن القيادة الأميركية لهذا العالم الذي باتت "زلات لسانه" تسبقه بخلق الحفر له هنا وهنالك. ولو أننا اكتفينا بهذا القدر، "جديداً" أمام حركة عدم الانحياز واجتماعها في "هافانا" لنُصور اضطراب العالم الذي تحاول قيادات الحركة مواجهته، أو تعلن أنها "ستسعى بكل الجهد والعمل الدبلوماسي لرد كرامة الحركة أو بعث أنفاسها الباقية"، لكان ذلك كافياً نسبياً باعتبار أن المرحلة الراهنة من حياة "النظام العالمي" لا تسمح بغير ذلك. ومنذ اختفاء القادة المؤسسين لحركة عدم الانحياز، والتي بدت لأكثر من عقدين كحركة تحرير وطني واقتصادي في ظروف الحرب الباردة، وأمام استقطاب نظم كبرى للنظام العالمي يميناً ويساراً، لم نعد نرى إلا محاولات محدودة، اختفت من ملفاتها نزعة التحرر الوطني أو الأصوات الشعبوية، وبقيت بعض النزعات الاقتصادية التي بدت ذات قوة بدورها في السبعينيات حتى أصابها التهرؤ بعد ذلك في ظلال التبعية ثم النظام العالمي أحادي القطبية، والمهيمن بآليات العولمة. كان تعويض العملية السياسية والتحرر الوطني قائماً لفترة بالفعل ممثلاً في قيام مجموعة السبعة وسبعين للدول النامية تحت مظلة دولية للأمم المتحدة باسم مؤتمر التجارة والتنمية "أنكتاد" والتي ظلت حية تدعمها دول "الأوبك" تارة مع انفراجة أسعار البترول، وتارة أخرى بقيام مجموعات الثمانية والخمسة عشر خارج أطر عدم الانحياز أو داخلها، وكان قادة عدم الانحياز العظام قد وضعوا بعض أسسها بالاتفاقات التجارية الخاصة، بل وبمشروعات صناعية كبرى شهدتها أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات مثل صناعة الطائرات وتنسيق صناعات الحديد والنحاس (باتفاق مصر والهند ويوغوسلافيا) في هذا المجال أو ذاك. وفي مؤتمرات كبرى بالجزائر في السبعينيات كان يتبلور ما عرف بـ"النظام الاقتصادي الدولي الجديد" كشعار لمجموعات الدول النامية، ودعماً لمنظمة "الأنكتاد"، مقابل بوادر سحب ثروة البترول وتقدم صناعة السلاح، والنظم المالية السائلة، وذلك في إطار جديد عرفناه متبلوراً بخطط العولمة وإطار منظمة التجارة العالمية الذي يمضي كالسيف حالياً. ورغم مقاومات من قبل بعض دول العالم الثالث في مؤتمرات لهذه المنظمة الكاسحة بالدوحة والمكسيك وهونج كونج، فقد كان تنازل حركة عدم الانحياز إلى "الاقتصادية" المطلقة غير نافع لصد هجمة العولمة والقطب الواحد على النظام العالمي، وأثبت وضع الدول الغنية "اقتصادياً" في أميركا الجنوبية قبل التغيرات السياسية الجذرية في بعض دولها أن "الاقتصادية المطلقة" لا تجدي أمام الاكتساح السياسي للعولمة، ومن هنا كان الضعف اللاتيني والعربي والآسيوي على السواء رغم توقفه عند "الهوية الاقتصادية" للثروات الكبيرة في هذه القارات، بل وأصبح القطب الواحد قادراً –ما دام وحده- على خلق مشاكل وقلاقل ودعاوى، في هذه المنطقة أو تلك، لاستيعاب الثروات وإضعاف أي تبلور لهذه الإمكانيات الاقتصادية تحت أي شعار لـ"الهوية". ومن هنا يفكر الجميع الآن في العودة لقدر من "الهوية السياسية" للعالم الثالث أو بلدان الجنوب، قد تساندها الإمكانيات الاقتصادية لهذه المنطقة أو الدولة أو تلك. علَّ ذلك ما ينشط التحليلات في هذه الفترة حول ظاهرة عدم الانحياز وحول قيمة اجتماع دولها في كوبا بالذات أو بالأحرى في أميركا اللاتينية، لكي لا نشارك في المبالغة من حول الاجتماع في "هافانا". وبالمناسبة لا تنشط مثل هذه التحليلات داخل العالم العربي إلا في أضيق الحدود لانشغال سياسييه ومعظم كتابه مع الخطط الأميركية والشرق أوسطية الجديدة في العراق والسودان والصومال على الأقل. لا يعني ذلك أن جديد عدم الانحياز، أو الجديد المحيط بعالم عدم الانحياز سيبعث برسائل إيجابية مطلقة كما قد تصوره قراءة البيانات الختامية التقليدية لمؤتمر يضم 118 دولة، ذلك أن اجتماعات عدم الانحياز بدت نشطة بفضل ماليزيا الرئيس الأخير للمجموعة، التي حاولت في الأشهر الستة الأخيرة، أن تحيى قدراً من المؤسسية للحركة باجتماعات للوزراء والخبراء في عاصمتها. لكن هذه الاجتماعات نفسها كشفت قدراً من الخلافات حول كوريا الشمالية وإيران، ومفهوم الإرهاب والعراق. وهو ما امتد إلى المشكلة السودانية، فضلاً عن دفع إيران وفنزويلا لشعارات "الشيطان الأكبر" و"الهيمنة الإمبراطورية الأميركية"، بما لا يريح الكثير من المعتدلين. كما أن الرئاسة الثلاثية القادمة للسنوات الثلاث التالية أو ما يعرف بـ"الترويكا"، ستضم الرئيس الجديد والسابق والقادم، أي كوبا وماليزيا ومصر. ومن تأمل الموقف السياسي لهؤلاء الثلاثة، يمكن تصور أثر صراع الرؤى والدور لكل منهم إزاء القطب العالمي من جهة (موقف كوبا مثلاً) أو إزاء التوجه الاقتصادي نحو بلدان الجنوب (ماليزيا) من جهة أخرى، أو البرود المثير تجاه الاتجاهين السابقين (مصر) من جهة ثالثة. وهذا كفيل ألا يجعلنا نتصور إنجازاً جديداً كبيراً نتيجة اجتماع "هافانا" الذي كنا نأمل في أن يكون انبعاثاً بحق لهذا التنظيم "الجنوبي" في مواجهة قهر العولمة اللافت. لعل ما يكفي أن يكون جديداً نسبياً لصالح شعوبنا سواء في إطار "اجتماع هافانا"، أو التوجهات المحيطة به هو الصوت المتميز لمجمل المجتمعين في القمة لصالح قضية الشعب الفلسطيني، ومطالب الشعب اللبناني، فضلاً عن تحية صلابة الشعب الكوبي، وهذا مما يسجل للنهوض السياسي للحركة. أما على المستوى الاقتصادي الذي يغيب عنه العرب رغم إمكانياتهم، فإن لقاءات البرازيل والهند وجنوب أفريقيا فيما يسمى "منتدى الحوار" فضلاً عن نشاط ماليزيا في اتفاقات تجارية جماعية وثنائية تتعدى المليارات، كفيلة بالإيحاء أن التوجه الاقتصادي، الذي عرفته الحركة أواخر أيام نهرو وناصر وتيتو ربما يعيد للحركة بعض حيويتها المتجددة. أما الصامتون بالمطلق على النمط العربي، أو بالخبث السياسي على النمط الصيني، في هذا الاجتماع فلهم حديث آخر، فالأولون مصممون على الخروج من التاريخ، والأخيرون ينتظرون بعض الوقت ليهاجموا التاريخ من أوسع أبوابه، ومعنى ذلك أننا أمام تحولات متوقعة وسط بلدان الجنوب نأمل ألا تغيب عنها الشعوب العربية.