بعد انقضاء خمس سنوات على أحداث 11 سبتمبر يجد الرئيس بوش نفسه مضطراً لحمل قضية مكافحة الإرهاب إلى الشعب الأميركي، وذلك بالنظر إلى المعارضة التي ما فتئ يبديها الكونجرس إزاء بعض مقترحات الرئيس بوش مثل رفضه الترخيص لإقامة لجان عسكرية تحاكم إرهابيين مشتبه فيهم. وهو ما دفع بالرئيس إلى المطالبة بسن تشريعات تسمح بتمرير اقتراحاته دون تعديل، لاسيما فيما يتعلق بالإجراءات الرامية إلى مكافحة الإرهاب. بيد أن الرئيس الذي دخل في عملية شد وجذب مع الكونجرس لتكريس رؤيته والدفع بها قدماً لديه أهداف أكبر من مجرد تسهيل حربه على الإرهاب، بل يسعى في المحصلة النهائية إلى تعزيز صلاحيات مؤسسة الرئاسة في النظام السياسي الأميركي ومدها بالقوة الكافية لاتخاذ القرارات التي يراها الرئيس مناسبة دون عرقلة من الكونجرس. هذه الرغبة الدفينة لدى بوش تجد صداها بكل جلاء في كلمات نائبه ديك تشيني الذي سبق وأن ندد عن حق "بتآكل سلطات رئيس الولايات المتحدة وقدرته على أداء مهامه"، مضيفاً: "نحن الآن كمؤسسة نعاني من الضعف بسبب التنازلات التي قدمت على امتداد الثلاثين إلى الخمس وثلاثين سنة الأخيرة". ولهذا السبب دخلت الإدارة الأميركية في حرب لاستباق الأخطار الخارجية، كما قامت بالنبش في البيانات الخاصة بالاتصالات داخل الولايات المتحدة لتعقب العناصر الإرهابية المحتملة واستئصالها. وقد اعتقلت علاوة على ذلك المشتبه فيهم دون محاكمة رسمية، وفي بعض الأحيان استعملت أساليب قاسية في استجوابهم، فضلاً عن إقامتها لمحاكم عسكرية على شاكلة المحاكم التي أنشئت خلال الحرب العالمية الثانية لمحاكمة وإعدام المخربين النازيين الذين تسللوا إلى الولايات المتحدة. ورغم الانتقادات التي تصور بوش على أنه رئيس يسعى إلى احتكار سلطات واسعة تحوله إلى إمبراطور، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الحرب عادة ما تنقل السلطة الأكبر إلى الجهة المسؤولة عن شن الحرب والمتمثلة في السلطة التنفيذية. والتاريخ الأميركي حافل بالسوابق مثل إرسال الرئيس "هاري ترومان" للقوات الأميركية إلى كوريا دون إذن الكونجرس، وغزو الرئيس بوش الأب لبنما دون موافقة السلطة التشريعية التي لم يستأذنها أيضا بيل كلينتون عندما أمر بشن الحملة الجوية على كوسوفو. وهكذا تعتبر قرارات إدارة الرئيس بوش بإنهاء العمل باتفاقية مناهضة الصواريخ البالستية، وانسحابها من محكمة الجزاء الدولية، ورفضها التوقيع على معاهدة "كيوتو" حول الاحترار الكوني استمراراً لسوابق تاريخية تصل إلى عهد الرئيس أبراهام لينكولن. أما على صعيد الجبهة الداخلية، فقد قامت إدارة الرئيس بوش بإعادة تصنيف المعلومات حول الأمن القومي التي أفرج عنها في عهد الإدارات السابقة على أنها سرية ورفضت، مستندة إلى صلاحيات السلطة التنفيذية، إطلاع الكونجرس، أو المحاكم على أعمال لجنة صياغة سياسة الطاقة. وفي هذا الإطار أيضاً أعلن البيت الأبيض أن الدستور الأميركي يخول الرئيس تجاهل القوانين التي تتدخل في سلطاته التنفيذية، حيث أصدر الرئيس بوش أكثر من بيان يؤكد فيه حقه في نقض أي قانون يرى عدم تماشيه مع مقتضيات الدستور. غير أن سعي الرئيس بوش إلى تعزيز صلاحيات مؤسسة الرئاسة وتقوية السلطة التنفيذية كثيراً ما تغيظ منتقديه وتثير حفيظتهم بسبب الاعتقاد السائد لديهم بأن الدستور الأميركي إنما جاء ليعلي من شأن السلطة التشريعية ويكرس هيمنة الكونجرس على النظام السياسي الأميركي. ويرجع هذا الاعتقاد السائد لدى بعض الأطراف السياسية إلى جيل من المشرِّعين ينظرون إلى المؤسسة الرئاسية عبر منظار فيتنام و"ووتر جيت". لكن الآباء المؤسسين الذين وضعوا أسس النظام السياسي وصاغوا الدستور الأميركي لم تكن تدور في خلدهم غلبة سلطة على أخرى، بل هدفوا إلى ممارسة نوع من الرقابة المتبادلة حيث يلجم القضاء والكونجرس السلطة التنفيذية، وبالمقابل تراقب هذه الأخيرة السلطتين القضائية والتشريعية. وجاء هذا التحول الذي رجَّح كفة الكونجرس على حساب الرئاسة خلال سنوات السبعينيات، حيث لم تكن تُحدق بالولايات المتحدة أية أخطار فوق أرضها، كما جاء في أعقاب فضيحة "ووتر جيت" واستخدام الرئيس نيكسون الأجهزة الأمنية للتجسس على خصومه السياسيين. وهكذا قام الكونجرس بتمرير مجموعة من التشريعات تهدف إلى الحد من سلطات الرئيس مثل قانون سلطات الحرب الذي يسعى إلى نزع صلاحية الرئيس في استخدام القوة خارج البلاد بعد مرور ستين يوماً. وتم إلى جانب ذلك سن قانون الموازنة والحجز الذي يلغي صلاحية الرئيس لمراقبة الإنفاق ومنع إهدار الأموال. أما قانون المعلومات الاستخباراتية والمراقبة فالغرض منه إرغام الحكومة على طلب الإذن من محاكم خاصة قبل السماح للأجهزة الأمنية بالتنصت على المكالمات الهاتفية. بيد أن هذه القوانين التي تحد من سلطة الرئيس لم تفض سوى إلى عدم فاعلية تمثل بدءاً في قانون الحرب، مروراً بمضاعفة الإنفاق دون محاسبة، وانتهاءً بإقامة حاجز يفصل بين المعلومات الاستخباراتية وتنفيذ القانون، وهو ما كان وراء فشلنا في منع وقوع هجمات 11 سبتمبر. وإذا كانت سنوات السبعينيات بظروفها الخاصة قد نقلت السلطة من يد الرئيس إلى قبة الكونجرس، فإن هذا الأخير عرف كيف يلعب دور المدير المتفهم لمطالب الوكالات الفيدرالية المختلفة التي تنتظر دولارات الموازنة، وخاصة أن مجلساً تشريعياً منقسماً على نفسه أفضل لتلك الوكالات من سلطة تنفيذية مُوحَّدة. ومع ذلك لن يستطيع الكونجرس بأعضائه البالغ عددهم 535 إدارة الشؤون السياسية اليومية للبلاد، بل يفترض أن يقتصر دوره على صياغة القوانين وتحديد الأهداف الكبرى، ثم السهر على إنفاق عائدات الضرائب على المصلحة العامة. يضاف إلى ذلك أن التفويض القانوني الذي يخلعه الكونجرس على الوكالات الفيدرالية المختلفة، والمحاكم الفيدرالية يظل غامضاً وملتبساً، حيث نادراً ما يلتفت المشرِّعون إلى القوانين التي أضحت متقادمة وتحتاج إلى تحديث. ومع الأسف لا يفهم كثير من الناس في الولايات المتحدة الدور الحقيقي للمؤسسة الرئاسية الذي هو أقل بكثير مما يتوقعون بسبب طغيان صورة الرئيس في الإعلام ما يعطيه هالة من القوة لا يجسدها على أرض الواقع. جون يو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا ومؤلف كتاب "حرب بوسائل أخرى" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"