يصيب مرض الملاريا ما بين 350 مليوناً إلى 500 مليون شخص سنوياً، يلقى حتفهم منهم ما بين 1.3 مليون إلى ثلاثة ملايين كل عام، أو ما يعادل وفاة واحدة كل ثلاثين ثانية. وللأسف، تحدث معظم هذه الإصابات والوفيات بين الأطفال دون سن الخامسة. ومما يثير قلق العاملين في مجال الصحة العامة وبرامج مكافحة الملاريا، أنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الأرقام خلال العقدين القادمين. وإذا ما صحت هذه التوقعات، فلنا أن نتخيل تبعات إصابة قرابة المليار شخص، ووفاة قرابة ستة ملايين منهم سنوياً بسبب الملاريا. فعلى الرغم من عدم توفر إحصائيات دقيقة عن معدلات الإصابات والوفيات بالملاريا، نتيجة أن معظم هذه الحالات تحدث في مناطق ريفية لا تتوفر بها الرعاية الصحية المناسبة، فإن الجميع يتفقون على أن الملاريا، من بين طائفة الأمراض المعدية، تعتبر واحداً من أكبر قتلة أفراد الجنس البشري. ولذا يصف البعض الملاريا أحياناً، على أنها أحد أعضاء "محور الشر الطبي الثلاثي"، والذي يتضمن أيضاً مرض السل والذي يسبب وفيات تتراوح ما بين مليون إلى مليونين سنوياً، ومرض الأيدز الذي يتسبب في وفيات تزيد على مليون شخص كل عام. ولا يقتصر تأثير الملاريا على الوفيات والإصابات فقط، حيث ارتبط هذا المرض أيضاً بالعديد من الآثار الاقتصادية السلبية في المناطق الموبوءة. فعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسات أن متوسط الدخل الفردي في المناطق التي لا يوجد فيها المرض يزيد خمسة أضعاف عن متوسط الدخل الفردي في المناطق الموبوءة. ورغم أن الكثيرين يعتقدون أن توطن الملاريا في بعض المناطق هو نتيجة الفقر والتدهور الاقتصادي في تلك المناطق، فإن العكس قد يكون هو الصحيح. فتوطن الملاريا أساساً في بعض المناطق، هو السبب وليس النتيجة، في بقاء تلك المناطق تحت خط الفقر المدقع. والدليل على ذلك أن الإحصائيات الدولية تظهر زيادة مستمرة في مستوى دخل الفرد في المناطق التي لا يوجد فيها المرض، بلغت 2.4% سنوياً في المتوسط ما بين عامي 1965 و1990، إلا أن المناطق المتوطن فيها المرض لم يزدد متوسط دخل الفرد فيها عن 0.4% كل عام خلال نفس الفترة. هذا التأثير الاقتصادي السلبي للملاريا يقدر أن يكلف قارة أفريقيا وحدها، والتي تعتبر أفقر قارة في العالم، أكثر من 12 مليار دولار سنوياً. ويستوطن المرض بشكل رئيسي الدول الاستوائية والدول الأفريقية جنوب الصحراء، وإن كان يوجد في مناطق أخرى عديدة من العالم. ففي الشرق الأوسط مثلاً، تستوطن الملاريا الساحل الغربي لإيران المطل على الخليج العربي، ومنطقة الأهوار وشرق العراق، وجنوب شرق ووسط تركيا، ومعظم المناطق الساحلية في اليمن، ومنطقة عسير بالسعودية. هذا بالإضافة إلى بعض البؤر المعزولة في دول أخرى، مثل منطقة الواحات في مصر، ومنطقة الحدود الجنوبية المشتركة بين ليبيا والجزائر، وبعض المناطق الداخلية في عمان والمغرب. وعلى ما يبدو أن المرض كان متوطناً في المنطقة منذ زمن بعيد، حيث أطلق العرب عليه (الرعاش)، لوصف موجات الحمى الشديدة والارتجاف المستمر اللذين يعتريان المصابين به بشكل دوري كل ثلاثة أو أربعة أيام. وبوجه عام، يعتقد أن الملاريا مرض قديم قدم التاريخ نفسه، بل ربما كان من أقدم الأمراض المُعدية التي عرفها الإنسان. فالدراسات الوراثية الجينية تظهر أن الجنس البشري وطفيلي الملاريا كانا على علاقة وثيقة عبر التاريخ، إلى درجة أن كلا منهما ترك أثره في التطور الوراثي البيولوجي للطرف الآخر. وحتى التاريخ البشري الحديث، بما فيه من حروب ونزاعات وقيام وسقوط حضارات، كانت دائماً الملاريا مرتبطة بالكثير من أحداثه. هذه العلاقة التاريخية، وخصوصاً على صعيد الوفيات، ربما حان لها أن تأخذ منحىً مختلفاً، بناء على خبرين تناقلتهما وسائل الإعلام هذا الأسبوع. الخبر الأول صدر عن "الإمبريال كوليدج" في لندن، ويعنى بطريقة علاج الأطفال المصابين بالنوع القاتل من الملاريا. فالحكمة الطبية الحالية، توصي بعدم إعطاء سوائل لهؤلاء الأطفال، مخافة أن تتسبب هذه السوائل في زيادة تورم المخ إلى درجة قاتلة، وهو ما يحدث بين المصابين بهذا النوع من الملاريا. وما توصل إليه علماء "الإمبريال كوليدج"، هو أن إعطاء هؤلاء الأطفال سوائل، بالترافق مع بروتين "الألمبيومن"، قد نجح في خفض الوفيات بينهم بنسبة 80%. وبالأخذ في الاعتبار أن الملاريا تقتل مليون طفل سنوياً، يمكن لمثل هذا الأسلوب في العلاج أن ينقذ حياة أكثر من ثمانمائة طفل سنوياً. ولكن بما أن الدراسة السابقة أجريت على عدد صغير من الأطفال –88 طفلاً- لابد وأن ينتظر الأطباء نتائج دراسة مماثلة ستجرى على ألف طفل، قبل بدء تطبيق هذا الأسلوب الجديد على مرضاهم. أما الخبر الثاني، فيتعلق بموافقة منظمة الصحة العالمية على استخدام المبيد الحشري المعروف "دي. دي. تي"، لمكافحة الملاريا، بعد منع استخدامه في جميع دول العالم لأكثر من ثلاثة عقود. فخلال السنوات الماضية بدا واضحاً للمختصين، أن المخاطر الصحية والبيئية التي ترتبط باستخدام الـ"دي دي تي"، أقل فداحة من الثمن الإنساني والاقتصادي لتوطن وانتشار الملاريا في الكثير من مناطق العالم. ورغم أن الـ"دي دي تي" سيظل ممنوعاً في معظم دول العالم، فإنه سيصبح متاحاً عن قريب للدول المتوطِّن فيها المرض، بعد أن ثبت أنه أكثر المبيدات الحشرية فعالية ضد البعوض الذي ينقل طفيلي الملاريا. د. أكمل عبد الحكيم