عادت أخبار حركة "طالبان" لتتصدر نشرات الأخبار رغم مرور خمس سنوات على سقوط نظام "طالبان" بيد قوات التحالف التي تزعمتها الولايات المتحدة عام 2001، فبعد أن ظلت أخبار المناوشات والقتال تظهر باستحياء في تقارير وكالات الأنباء والأخبار القادمة من أفغانستان، سلطت الأضواء من جديد على سلسلة المناوشات والمعارك في شرق وجنوب شرق أفغانستان بين مقاتلي "طالبان" وقوات التحالف منبئة بعودة "طالبان" كفاعل رئيسي في الخريطة السياسية الأفغانية وكعنصر مؤثر وبشدة في مستقبل أفغانستان وخطط إعادة الإعمار. فعلى الرغم من توالي العمليات العسكرية التي شنتها القوات الأميركية على معاقل الحركة، ورغم عملية "الضربة الشجاعة" والتي جرت معاركها في أواخر مارس الماضي إلا أنها لم تنجح في تحجيم قوات حركة "طالبان"، مما استدعى القيام بعملية "ميدوسا"، وهي أكبر هجوم بري لقوات التحالف ضد النشاط المتزايد لمقاتلي "طالبان" في إقليم قندهار في الجنوب الشرقي والذي يعتبر المعقل الرئيسي للحركة. وثمة مؤشرات عدة تدعو للقول إن حركة "طالبان" تشهد عملية بعث جديدة وحراكاً غير عادي بين صفوفها، فمقاتلوها أعادوا لملمة صفوفهم خاصة في المنطقة الجنوبية المحاذية للحدود الباكستانية، وتشير التقارير إلى أن الحركة تمكنت من حشد التأييد الشعبي لها بين السكان البشتون المحافظين في الجنوب الأفغاني لتوجيه هجمات ضد قوات التحالف الدولية والقوات الحكومية. تشهد أفغانستان اليوم سلسلة اشتباكات عنيفة وعمليات انتحارية تحصد أرواح جنود قوات المساعدة الأمنية الدولية "إيساف" التي يقودها حلف "الناتو"، وهي القوة التي أنشئت لتحل مكان القوات الأميركية والتي تولت القيادة فعلياً منذ نهاية الشهر الماضي، والتي تعمل بشكل أساسي على مساعدة الحكومة الأفغانية في حفظ الأمن وعمليات إعادة الإعمار في المرة الأولى التي تنخرط فيها قوات حلف "الناتو" في مهام أمنية خارج أوروبا. وذكر رئيس اللجنة العسكرية بحلف شمال الأطلسي "الناتو" الجنرال "راي هينولت" أن أفغانستان هي أصعب المهام العسكرية التي تولاها الحلف على الإطلاق، ويبلغ تعداد قوات التحالف أكثر من 9 آلاف جندي تنتشر في ستة أقاليم جنوبية بأفغانستان ويتوقع أن يرتفع العدد إلى أكثر من 21 ألفاً بنهاية شهر نوفمبر القادم، إضافة إلى القوات الأميركية والتي تقدر بعشرة آلاف جندي العاملة ضمن عملية "الحرية الدائمة" المستقلة عن الحلف. ليعود التساؤل من جديد عن نجاح استراتيجية الإدارة الأميركية في أفغانستان، وليلفَّ التشاؤم الاستقرار السياسي في أفغانستان، فالوضع الأمني رغم قوات التحالف والقوات الأميركية والجيش الأفغاني لا يزال مزعزعاً، ونجاح الحركة في إعادة لملمة صفوفها واستعادة مواقعها وحتى السيطرة التامة على مناطق بأكملها في الجنوب يترجم الفشل الأميركي في القضاء على حركة "طالبان"، إن لم يكن أفراد "القاعدة"، ويظل التساؤل الرئيسي عن مستقبل أفغانستان السياسي والأمني الأهم وقبلهما مشاريع إعادة إعمار ما دمره ربع قرن من الحروب الدولية والإقليمية والأهلية. بداية سيظل الوجود العسكري أو السياسي أو حتى الاقتصادي الأجنبي في أفغانستان نقطة حساسة للشعب الأفغاني نتيجة تراكمات الماضي، وغالباً ما ينظر للحكومة الأفغانية الحالية على أنها محصلة للسياسات الأميركية وأداة لفرض الأجندة الأميركية في مشاريع الإعمار وبناء دولة حديثة حسب المعايير الأميركية والتي لا تجد لها صدى في مجتمع محافظ بحكم التاريخ كما بحكم الجغرافيا، وهي دولة تتعارض مع الدولة الإسلامية بنموذجها الطالباني. وجهات عديدة في المجتمع الأفغاني غير راضية عما آلت إليه الأمور في الدولة وفي تقاسم السلطة لأسباب سياسية أو عرقية أو إثنية، عناصر قد لا تتفق مع مشروع حركة "طالبان" لكن تتفق معها في هدف زعزعة النظام القائم وإفشال المشروع الأميركي. في الوقت الذي عادت فيه المخدرات لتتصدر صادرات أفغانستان بعد أن أعلن تقرير مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة أنه من المتوقع أن تزيد نسبة زراعة نبات الخشخاش الذي تنتج منه مادة الأفيون المخدرة بنسبة 59 في المئة العام الحالي في أفغانستان، وأن أفغانستان ستقدم 92 في المئة من استهلاك العالم من الأفيون، مضيفاً أن النسبة الأكبر من الزيادة ستأتي من جنوب البلاد الذي يخضع لسيطرة حركة "طالبان". كمؤشر واضح ورئيسي لانعدام سلطة الحكومة المركزية في كابول على أقاليم البلاد والتي أشار فيها تقرير الأمم المتحدة إلى أن ستة أقاليم فقط من أقاليم أفغانستان الـ34 خالية من الأفيون. وهو فشل جديد للحكومة المركزية في كابول والتي لا تمتد سلطتها الفعلية خارج نطاق العاصمة حتى أصبحت حكومة كرزاي حكومة على العاصمة كابول لا الدولة الأفغانية. في الواقع يحتاج الرئيس الأميركي اليوم للبرهنة على أن مشروع بناء الدولة في أفغانستان يحقق نجاحاً وأن حربه على الإرهاب التي بدأها قبل خمس سنوات على معسكرات "القاعدة" وحكومة "طالبان" نجحت في تحجيم أنشطة الأولى وإزالة الثانية. فعلى الرغم من إجراء انتخابات تشريعية أفغانية في 18 سبتمبر 2005، كانت الأولى من نوعها منذ 30 عاماً تقريباً وتشكيل البرلمان الأفغاني على إثرها، فإن البلاد لا تزال تعاني من مصاعب سياسية، واليوم مازال يصعب مدى تحقق استتباب الأمن في البلاد لصالح الحكومة المركزية في كابول. فالرئيس الأفغاني كرزاي يحتاج لدعم ومساعدة الولايات المتحدة من أجل بسط سيطرته على بلاده، وهو أمر لم ينجز بعد، بل يصبح أكثر صعوبة بمرور الأيام. المهمة الأميركية بالأساس لم تنجز بالشكل الأمثل، ومن الواضح أن الحكومة الأميركية لم تتعلم من أخطائها في أفغانستان لتعيد تكرار ذات الخطأ. فالرئيس الأميركي انشغل بحربه في العراق ومناوشاته لإيران وسوريا متناسياً خطورة الأوضاع في أفغانستان ليتكرر خطأ الانسحاب من أفغانستان في التوقيت الخاطئ، مما أعطى المجال لحركة "طالبان" للملمة صفوفها واستعادة نشاطها. وخطورة الحركة أنها تستمد قوتها من الأفكار والمعتقدات ولا تتمحور حول الأشخاص، إضافة إلى أن استعانة الحكومة الأفغانية بالقوات الدولية لم تساهم بتقوية الحكومة المركزية بل عملت على إضعاف هيبتها في الأقاليم، كل ذلك برز في استعادة لوردات الحرب سيطرتهم على الأقاليم الأفغانية. وستظل أفغانستان بؤرة للتجاذبات الدولية والإقليمية والمحلية فهي أبعد ما تكون عن الاستقرار أو الأمن.