لعقود من الزمن دأبت الهند على لعب دور المنتقد للنظام السياسي القائم في العالم. فبعدما نجحت في انتزاع استقلالها في بداية الحرب الباردة بدأت الهند ترسم لنفسها طريقها الخاص نحو الازدهار والتقدم بمعزل عن تأثير القوى الإمبريالية المهيمنة على العالم. ولم يكن غريباً أن تقوم الهند سنة 1955 بمعية دول نامية أخرى لديها التوجه نفسه بتأسيس حركة عدم الانحياز. لكن في القمة الدورية الرابعة عشرة لدول عدم الانحياز في هافانا وجدت الهند نفسها في وضع متشابك مع القوة الكبرى ذاتها التي كانت تحاول في السابق النأي عنها، لاسيما الولايات المتحدة. والنتيجة أن الهند وجدت نفسها اليوم مطالبة بردم الفجوة بين دورها التاريخي كمحرض ضد النظام العالمي السائد، وبين مستقبلها كإحدى القوى العالمية الصاعدة على الساحة الدولية. وبالنسبة للهند يرتبط التغيير الملموس في دورها العالمي بالنضج المتنامي الذي باتت تتمتع به على الصعيد الدولي. هذا الطرح يؤكده "راجا موهان"، عضو الهيئة الاستشارية للأمن القومي الهندي قائلاً: "إنه انتقال من ممارسة دور الاحتجاج على النظام العالمي القائم إلى تحمل مسؤولية إدارته والمشاركة في صياغة خطوطه العريضة". ولا يخفي المسؤولون الحكوميون في الهند إدراكهم بأن القمة تطرح أساساً طبيعة التوازن الجديد الذي يتعين على الهند إقامته. فحسب "بي هاريش"، وهو أحد المتحدثين باسم وزارة الشؤون الخارجية: "ستلعب الهند مستقبلاً دور الجسر الساعي إلى الحد من الهوة العالمية المتنامية عبر تعزيز الثقة بين الأطراف الدولية المختلفة". وبالطبع لن يكون الأمر سهلاً على الهند، لاسيما وأن العديد من رجال السياسة في الدول النامية مازالوا ينظرون إلى الولايات المتحدة باعتبارها الخطر الإمبريالي الأول المحدق بالعالم والذي يهدد بتغيير الأنظمة والهيمنة الثقافية. وينكبُّ حالياً المشاركون في القمة على صياغة مسودة بيان قد تعلن مساندة من نوع ما لإيران في اكتساب التكنولوجيا النووية السلمية. وتسعى القمة في الوقت نفسه إلى توسيع دائرة مفهوم "الإرهاب" لتشمل الاحتلال، والعمليات العسكرية الأخيرة التي قامت بها إسرائيل في لبنان. بيد أن الهند التي لم تكن في الماضي لتفوت فرصة الانضمام إلى جوقة المنتقدين للولايات المتحدة، حتماً لن ترفع هذه المرة عقيرتها ضد أميركا. فقد باتت الأهداف الاستراتيجية للهند أكثر من أي وقت مضى أقرب إلى الأهداف الأميركية بدءاً من المصالح الاقتصادية وانتهاء بالمخاوف الأمنية المشتركة. فعلى سبيل المثال يسعى رئيس الوزراء الهندي "مانهومان سينج" إلى نقل النقاش حول الإرهاب مع واشنطن إلى تصنيف المتشددين داخل شبه القارة الهندية. وفي ظل دراسة الكونجرس الأميركي للتصديق على صفقة مع نيودلهي تعترف بها كقوة نووية عالمية فإنه من غير المرجح أن تلجأ الهند إلى إثارة حفيظة الولايات المتحدة في هذه المرحلة عبر إطلاق تصريحات مستفزة حول الإمبريالية الأميركية الجديدة. وكما عبر عن ذلك "راجا موهان"، المشار إليه اعلاه، ستحاول الهند ما أمكن خلال انعقاد القمة "التخفيف من حدة لهجتها تجاه الولايات المتحدة"، وهو ما قد يصور الهند على أنها تابعة لأميركا وحليف طيع في الحرب على الإرهاب، فضلاً عن ظهورها بمظهر الأداة الأميركية في مواجهة الصين. وبالنسبة للحزب الشيوعي الهندي يعتقد مسؤولوه أن ما تحتاج الهند أن تظهره في القمة هو "الموقف الحازم ضد الولايات المتحدة". ومع ذلك يعتقد بعض المراقبين أن هناك عوامل إضافية تحدد موقف الهند من الولايات المتحدة. فقد أفضت سياسة الانفتاح التي انتهجتها نيودلهي مع بداية عقد التسعينيات وتدفق الاستثمارات الأجنبية إلى إحداث تحول ملحوظ في السياسة الخارجية للهند. فبينما كانت تعاني في السابق من عزلة دولية رغم انتقاداتها للولايات المتحدة، أصبحت اليوم في صلب الاقتصاد العالمي مستفيدة من موجة العولمة لنسج علاقات واسعة مع العديد من القوى العالمية. ورغم أن العلاقة بالولايات المتحدة جزء أساسي من علاقات الهند الخارجية، إلا أن خصوصية العلاقة لا تقتصر على أميركا دون غيرها. ففي مطلع الأسبوع الجاري قام رئيس الوزراء الهندي "مانهومان سينج" بزيارة إلى البرازيل في أول لقاء قمة يجمع بين القوى القارية الثلاث الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا قصد توطيد العلاقات بينها وتعزيز مواقعها على الساحة الدولية. واللافت أن القمة الثلاثية تلك ناقشت سبل إقناع دول الشمال بفتح أسواقها أمام منتجاتها الفلاحية. ولم يفت رئيس الوزراء الهندي أن يعلن في اختتام القمة أن الهدف من الاجتماع هو "السعي إلى إقامة نظام دولي جديد يكون أكثر عدلاً وأقرب إلى إشراك الدول النامية في تحديد معالمه". ـــــــــــــــــــ مراسل "كريستيان ساينس مونيتور" في الهند