عثر مؤخراً في بعض الولايات الأميركية المعروفة بزراعة الأرز على جزء من المحصول معدل وراثياً مختلطاً مع الأرز العادي الموجه للاستهلاك البشري. وفي حالة أخرى مشابهة تم اكتشاف أنواع من العشب تستخدم عادة في ملاعب الجولف بعيدة بعدة أميال عن الحقول التجريبية المخصصة لها ما جعلها أول محصول معدل وراثياً يعرف طريقه إلى الطبيعة بعدما أفلت من الأماكن التي يفترض أن يبقى محصوراً بين أسوارها. وفي أول رد فعل على الحادثة وجه القاضي الفيدرالي في هاواي انتقادات شديدة إلى وزارة الزراعة الأميركية معتبراً أن ما حدث بمثابة "عدم اهتمام" من قبل وزارة الزراعة الأميركية بالتجارب التي تطال بعض الأنواع الزراعية وتعريض المستهلك للخطر. وفي معرض انتقاده للوزارة المعنية أضاف القاضي الفيدرالي أنها فشلت في إجراء البحوث الضرورية للتأكد من الآثار البيئية الناجمة عن التجارب التي تخضع لها محاصيل الذرة وقصب السكر. كما طالبت الجماعات المهتمة بالأمن الغذائي بوقف جميع التجارب التي تهم المحاصيل الزراعية الموجهة لإنتاج العقاقير الطبية حتى يتم التأكد من سلامة التجارب وعدم إضرارها بالمحاصيل. ورغم أن التغيرات التي لحقت بالمحاصيل الطبيعية جراء التجارب لم تحدث أي ضرر يذكر، بحيث إن الأرز المعدل وراثياً يشبه إلى حد كبير نوعاً آخر معدلاً طرح في الأسواق، فإنه بالنسبة للعديد من المهتمين بالتكنولوجيا الحيوية الذين دأبوا في الماضي على الدفاع عن فوائد التعديل الوراثي لبعض المحاصيل، لم يستطيعوا هذه المرة إخفاء انزعاجهم من حوادث تسرب تلك المحاصيل إلى الطبيعة. وهي الحوادث التي تظهِر في نظرهم تراخي السلطات الحكومية في مراقبة عملية التجارب وتقنينها. وفي هذا الإطار تؤكد "مارتينا نيويل ماجلولين" إحدى المدافعات المفوهات عن استعمال التكنولوجيا الحيوية قائلة "من الضروري التقيد التام باللوائح والقوانين الجاري بها العمل في هذا المجال"، مضيفة أن حوادث تسرب المحاصيل المعدلة وراثياً دون موافقة مسبقة، "ليست خطيرة على الصحة بقدر ما تطرح مشاكل تخص احترام القوانين والالتزام بها، الأمر الذي يقع على عاتق الشركات والسلطات الحكومية لفرض احترام تلك القوانين والتقيد بها". "جريجوري جاف"، مدير مشروع التكنولوجيا الحيوية في مركز العلوم والمصلحة العامة، وهو إحدى الهيئات المدافعة عن المستهلك في واشنطن، يقول في هذا السياق "إن الحوادث السابقة تؤشر على أن الحكومة الأميركية أهملت في مراقبة أبحاث التكنولوجيا الحيوية، وفي بعض الأحيان لم تقم بما يلزم لسن القوانين اللازمة"، مضيفاً أن السلطات المختصة والشركات العاملة في المجال "لا تتحكم في المحاصيل المعدلة وراثياً، كما أن الشركات لا تحترم القوانين بالطريقة الصحيحة". والأكثر من ذلك تثير حوادث تسرب المحاصيل المعدلة وراثياً خارج إطار التجارب العديد من التساؤلات المزعجة كالتي طرحها مايكل فيرناديز، المدير التنفيذي لمبادرة "بيو" المنظمة المستقلة والمختصة في البحث عن معلومات موضوعية حول الأغذية المعدلة وراثياً، متسائلاً "كيف يتسنى لنا التأكد من المحاصيل المعدلة وراثياً وبأنها لا تبقى محصورة داخل إطار التجارب؟ وهل هناك أنواع أخرى من المحاصيل تسربت إلى الخارج عدا الأرز وعشب الملاعب؟". وفي ظل الانتقادات المتواصلة الموجهة إلى الجهات الحكومية واتهامها بالتقصير في أداء مهامها أصدر مكتب المفتش العام في وزارة الزراعة الأميركية تقريراً يحث فيه مصلحة المراقبة في الوزارة بـ"تعزيز آليات المحاسبة في مجال التجارب التي تهم المحاصيل الزراعية"، منبهاً إلى أن "الضعف الذي تعرفه مراقبة المحاصيل، فضلاً عن سوء الإدارة يضاعف من احتمال تسرب المحاصيل الزراعية المعدلة وراثياً إلى الطبيعة". وقد وافقت مصلحة المراقبة داخل وزارة الزراعة الأميركية في ردها على التقرير على البدء في تطبيق 23 من 28 توصية خرج بها التقرير. لكن المصلحة تحفظت مع ذلك على التوصية التي تدعو إلى "وضع معايير محددة تروم الحد من احتمال تعرض المستهلك لأغذية معدلة وراثياً لم يصرح بها من قبل". يذكر أن المحاصيل المعدلة والحاصلة على ترخيص من السلطات الصحية تعرف رواجاً كبيراً في الولايات المتحدة. فحسب تقديرات وزارة الزراعة الأميركية بلغت نسبة المحاصيل المعدلة وراثياً في أميركا خلال السنة الجارية 61% من مجموع محاصيل الذرة و89% من حبوب الصويا. كما أن أكثر من 80% من الإنتاج الأميركي من القطن هو أيضاً من النوع المعدل وراثياً. ولكن بالرغم من الانتشار الواسع لتلك المحاصيل في عموم الولايات المتحدة، هناك صعوبات جمة تعترض خطط توسيع تجربة أنواع أخرى من المحاصيل المعدلة وراثياً. وفي هذا الإطار ما فتئت خطط إنتاج القمح تراوح مكانها بسبب مقاومة بعض الأطراف وتشكيك جهات أخرى في آثارها المحتملة على البيئة وصحة والإنسان. وقد ظلت التجارب السابقة في مجال التعديل الوراثي للمحاصيل التي تمت المصادقة عليها محصورة في مجال تحسين المحاصيل لمقاومة الحشرات والمبيدات السامة. أما التطبيقات الأخرى للهندسة الوراثية المتعلقة بتحسين مذاق المحاصيل، أو التحكم في نموها وحجمها فهي مازالت قيد البحث والتمحيص. ولعل ما يحد من تطور الأبحاث التي تهم جوانب متعددة من تحسين المحاصيل وتعديلها وراثياً هو ما تبديه إلى حد اليوم الدول الأوروبية وبعض البلدان الآسيوية من تحفظ إزاءها، ما يؤثر على مدى انتشارها في السوق العالمية. فالصين التي كان يُتوقع أن توافق على استخدام الأرز المعدل وراثياً مازالت سلطاتها تتلكأ في منح ختم الموافقة للمحصول الجديد. أما الدول الأوروبية فقد طالبت الشركات الأميركية بإصدار وثائق تؤكد عدم خضوع المحاصيل الزراعية المصدرة إليها إلى التعديل الوراثي بعدما كشفت مسألة تسرب الأرز المعدل إلى المستهلك الأميركي. ولم تتخلف اليابان عن باقي الدول المتشككة، حيث قامت بتعليق صادرتها من الأرز الأميركي حتى يتم التأكد من سلامته. ـــــــــــــــــــــــــــــ جريجوري لامب كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"