ربما كان الأمر الوحيد الذي يجمِع عليه المحللون في الكيان الصهيوني وفي البلدان العربية على حد سواء، فيما يتعلق بتبعات الحرب على لبنان، هو أن الأوضاع في المنطقة بأسرها قد تغيرت تغيراً جوهرياً منذ اندلاع الحرب في 12 يوليو 2006. ورغم تباين الآراء حول حدود هذا التغير ومغزاه وآفاقه وحول حسابات المكسب والخسارة من هذا التغير، فإن ثمة اتفاقاً عاماً على أنه لا عودة للأوضاع التي كانت سائدة من قبل، وأن أية خطط مستقبلية من الجانب العربي أو الصهيوني لابد وأن تنطلق من هذا الواقع الجديد الذي أنتجته الحرب. ويمثل مستقبل العلاقات بين الكيان الصهيوني وبلدان المنطقة، إنْ سلماً أو حرباً، إحدى القضايا الأساسية التي تحظى باهتمام كثير من الكتاب في الصحف الإسرائيلية. وإذا كانت بعض الأصوات تنادي بضرورة الاستعداد لحرب قادمة، سواء مع لبنان أو سوريا أو إيران أو مع الثلاثة في آن واحد، وترى أن مثل هذه الحرب ضرورية لبقاء "دولة إسرائيل"، فإن الرأي السائد هو أن حرب لبنان ينبغي أن تكون عبرةً تُستخلص منها الدروس عن حتمية التوصل إلى تسوية ما تكفل التعايش بين الدولة الصهيونية ومحيطها العربي والإسلامي، حتى وإن استدعى الأمر تقديم "تنازلات" مريرة. ويُعد هذا الرأي تحولاً مهماً ينبغي التوقف عنده والسعي إلى فهم منطلقاته ودلالاته، بغض النظر عن صيغ التسوية المطروحة ومدى تلبيتها للحقوق والتطلعات المشروعة للشعوب العربية، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني. فقبل اندلاع الحرب على لبنان، وخلال أيامها الأولى، كانت لغة القوة هي الأكثر شيوعاً في الأوساط الصهيونية، وخاصة في أعقاب فوز حركة "حماس" في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني وقيادتها للحكومة الفلسطينية الجديدة، وكانت النغمة السائدة هي استحالة التوصل إلى أية تسوية مع الجانب الفلسطيني في ظل قيادة "حماس"، بل ورفض أي شكل من أشكال التعامل مع تلك القيادة المنتخبة ديمقراطياً. وفي الوقت نفسه، كانت المذابح اليومية التي ترتكبها القوات الصهيونية ضد المدنيين في قطاع غزة، وكذلك اقتحام سجن "أريحا" واختطاف أحمد سعدات، أمين عام "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ورفاقه، واعتقال عدد كبير من وزراء الحكومة الفلسطينية وأعضاء المجلس التشريعي، بمثابة تأكيد للنهج القائم على أوهام القوة والهيمنة. فما الذي حدث على صعيد الوعي والرأي العام داخل الكيان الصهيوني حتى تتراجع الأصوات الداعية إلى الحرب وفرض الأمر الواقع بالقوة؟ يجيب "ران كوهين" (صحيفة هآرتس، 11 سبتمبر 2006) على هذا التساؤل جزئياً، في سياق عرضه لتبعات الحرب الأخيرة، فيقول: "في الأسابيع الأخيرة ساد اعتقاد في أوساط الجمهور والمحللين السياسيين بوجوب استخلاص العِبر من الحرب التي انتهت الآن من أجل الفوز في الحرب القادمة في الشمال. وهكذا يُجمع الجميع على أن خطة أولمرت للانطواء (الحل من جانب واحد) قد لفظت أنفاسها، وأن من الواجب الاستعداد لأسوأ الأمور في الساحة الفلسطينية أيضاً. والرأي الشائع هو أن على جنود الجيش الإسرائيلي، وليس على السياسيين، أن يكبحوا الحرب القادمة بأجسادهم. وكأن الحرب قدَر من السماء، أو هزة أرضية يمكن توقعها، ولكنْ ليس من الممكن منعها. ولكنَّ الحرب ليست كارثة طبيعية أو قدراً محتوماً، فهي نتاج للمجريات السياسية والداخلية التي يمكن توقعها، بل وتغيير مسارها في اتجاهات أخرى أكثر ملاءمة. وفي الوضع الحالي توجد فرصة لإزالة مؤامرة "محور الشر" من خلال فتح "محور الخلاص" المعروف والمُجرب: عملية السلام مع الشركاء المحتملين. لقد أصبحت حكومة أولمرت وبيريتس فارغة من الأهداف والمضامين بعد أن كان الجمهور قبل أشهر قلائل ينتظر تشكيلها ويحدوه الأمل. وقد غدت حكومة الانطواء والنظام الاجتماعي الجديد الآن بلا أهداف بعد أن مات هذان الهدفان الرئيسيان ودُفنا خلال حرب لبنان الثانية. والطريقة الوحيدة لإعادة البناء السياسي لا تتمثل بمناورة ضم حزبي "الليكود" أو "إسرائيل بيتنا" للحكومة، فهذه الخطوة ستكون سخيفة وتؤكد فقط على فقدان هذه الحكومة لهويتها وغاياتها. وعلى الحكومة أن تستوعب عوامل الأزمة، وليس نتائجها فحسب، وليس هناك ما يمكن أن يشكل انعطافة على هذا الطريق سوى السير نحو طاولة المفاوضات مع سوريا ولبنان والفلسطينيين". وبالمثل، يؤكد "شلومو جازيت"، (صحيفة معاريف، 11 سبتمبر 2006) على أن البدء في مفاوضات جدية من أجل التوصل إلى تسوية هو المخرج الوحيد أمام الكيان الصهيوني، ولكنه يضيف عنصراً آخر يدلل به على حتمية البحث عن هذا المخرج، ألا وهو قرب تحول إيران إلى قوة نووية، بل ويذهب به التشاؤم إلى حد القول بأن البديل للتسوية السياسية لن يكون سوى "القضاء على دولة إسرائيل". يقول الكاتب: "لا ينبغي أن نوهم أنفسنا. ستكون إيران إن عاجلاً أم آجلاً قوة نووية. وحتى لو فُرضت عليها عقوبات من أي نوع، فلن تكون قادرة على منع أو حتى إعاقة العملية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أية محاولة لتدمير المنشآت النووية لن تفضي، في أفضل الأحوال، إلا إلى تأخير الجدول الزمني، ولكنها ستؤدي في المقابل إلى تعميق رغبة إيران في الانتقام. وفي نهاية المطاف، فسوف تكون النتيجة إنتاج سلاح نووي، مع إمكان إطلاقه على إسرائيل أيضاً". ويناقش الكاتب الآراء السائدة في الكيان الصهيوني بشأن مستقبل القدرات النووية الإيرانية، ويرى أن ثمة نظرة متفائلة تستبعد إقدام إيران على توجيه سلاحها النووي المنتظر ضد الكيان الصهيوني. وتستند هذه النظرة إلى أن إيران تدرك جيداً القدرات النووية المتوفرة لدى الكيان الصهيوني، وهو ما يمثل نوعاً من الردع، ومن ثم فلن تغامر بالدخول في مواجهة قد تؤدي إلى تدمير الطرفين معاً. وفي المقابل، فإن هناك نظرة متشائمة ترى أن "القيادة الإيرانية مدفوعة بقوة إيمان ديني متشدد. وحتى لو امتلكت إسرائيل القدرة على توجيه ضربة ثانية مدمرة، فلن يكون ذلك رادعاً لإقدام إيران على عمل يهدف إلى تخليص العالم من الكيان الصهيوني". ويبدو الكاتب أميل إلى هذه النظرة المتشائمة، ومن ثم يخلص إلى القول: "يجب على إسرائيل أن تتبنى استراتيجية تقوم على الاحتمال المتشائم. علينا أن نصبر على افتراض أن إيران ستكمل تطوير سلاح نووي، وعندئذ يمكن أن تقدم على عمل مجنون يهدف إلى القضاء على إسرائيل. ليس أمامنا كثير من الوقت، إذ يبدو واضحاً أن إيران ستكمل تطوير قدراتها وتتوصل في غضون سنوات معدودة إلى امتلاك مستودع من القنابل النووية بما يمكنها من توجيه الضربة المجنونة. وقد يكون بوسع إسرائيل أن توجه ضربة تحدث ضرراً بالغاً بإيران، لكن ذلك لن ينقذ إسرائيل من ضربة شديدة. ومن هنا نستنتج أنه إذا كانت إسرائيل ترغب في البقاء، فإن أمامها طريقاً آمناً للخلاص من هذا الخطر. علينا أن نبعد الحجة التي يتعلل بها النظام الإيراني لمعاداة إسرائيل. علينا أن نستغل السنوات المعدودة المتبقية للتوصل إلى اتفاقات سياسية مع سوريا والفلسطينيين، فمن شأن السلام بين إسرائيل وجاراتها أن يزيح البساط من تحت أقدام السياسة الإيرانية. نحن نعلم ما هو الثمن السياسي الباهظ الذي سيُطلب إلينا أن ندفعه من أجل التوصل إلى اتفاقيات سلام، ولكن يجب أن يُقارن هذا الثمن بالبديل الفظيع، ألا وهو إبادة إسرائيل مادياً". ومن الواضح أن هذا التشاؤم لدى قطاع لا يُستهان به من الرأي العام في الكيان الصهيوني ما كان له أن يبرز على هذا النحو، لولا إنجازات المقاومة في لبنان وفلسطين. ولعل هذه الحقيقة تكون حافزاً لإعادة النظر في مقولات المتشائمين العرب، الذين لا يكفون عن التهوين من شأن هذه الإنجازات والدعوة إلى التخلي عن منطق المقاومة، بل وعن أبسط قيم الحق والعدل والكرامة. والله أعلم.