يتجدد الحديث عن جريمة 11 سبتمبر، وتتوجه معظم وسائل الثقافة والإعلام في العالم للتذكير بالحدث الخطير الذي بدأ به القرن الحادي والعشرون وأغرق بآثاره الدموية مستقبل البشرية، والمؤسف أن ذكرى الجريمة باتت مناسبة سنوية لتجديد بواعث الحقد والكراهية للعرب والمسلمين ولتعبئة مشاعر بسطاء الناس في كل الأمم ضد "الهمجيين" الذين يهددون مستقبل الإنسانية حيث يتم وصفهم بأنهم يعشقون الدماء ويحقدون على الحضارة الغربية ويريدون فرض الإسلام على المجتمعات الأوربية والأميركية. ومع أن العرب والمسلمين في العالم كانوا من أوائل من أدان الجريمة القذرة التي كان من ضحاياها عرب ومسلمون، إلا أن التهمة التي وجهت إليهم كانت جاهزة قبل أي تحقيق قانوني، وقد تمت إدانة عرب ومسلمين بقوة الإعلام وليس بقوة الأدلة التي ما تزال موضع ريبة وشك. وقد كتبت آلاف الصفحات التي تناقش القرائن التي قدمت ولم تعطِ الإدارة الأميركية بياناً قانونياً قاطعاً للشك بعد سيل الفضائح التي واكبت لجان التحقيق التي لم تنه عملها ولم تعد لديها حاجة لإنهائه لأن الإدانة باتت مسلَّمة (إعلامياً) لدرجة أن بعض الكتاب (العرب) باتوا يهزؤون ممن يرتاب في صحة الأدلة المقدمة ويتهمون من يطلب تحقيقاً دولياً بأنه يريد تبرئة "القاعدة". وثمة كتاب عرب آخرون يصرون على القناعة التامة بصحة الاتهام دون مناقشة منطقية من باب التفاخر بالعبقرية العربية التي أنجزت ما سموه غزوات نيويورك ومانهاتن، وهم يدافعون عن حق العرب والمسلمين في دحر الطاغوت الأميركي ومهاجمته في عقر داره، ويبدو أمراً غير مستغرب أن تحدث جريمة بهذا الحجم اضطراباً وفوضى فكرية وسياسية في العالم كله. لكن استمرار الاضطراب والفوضى الفكرية وعدم القيام بمراجعة موضوعية لما حدث على الرغم من مرور خمس سنوات على الجريمة يبدو أمراً مستغرباً. صحيح أن الإدارة الأميركية التي أعلنت في ساعة الغضب حرباً صليبية على العرب والمسلمين سرعان ما تراجعت عن هذا التعبير وأطلقت تصريحات تحدد العدو بأنه "القاعدة" فقط والتطرف الإسلامي. إلا أن الانتقام الذي قامت به الولايات المتحدة لم يكن ضد "القاعدة" التي ما يزال قادتها طلقاء تلاحقهم جيوش أميركا إعلامياً وهم يتصدون لها ويهددونها في ذات وسائل الإعلام التي تشرف عليها الولايات المتحدة. فقد شمل الانتقام عالمنا الإسلامي كله، بدءاً من أفغانستان التي تعرض شعبها لقتل وسفك وتدمير دون أن يرتكب ذنباً سوى أن الولايات المتحدة فرضت عليه "القاعدة" وابن لادن ذات يوم كي يسهم معها في طرد الاتحاد السوفييتي، وأنها فرضت عليه حكومة "طالبان". ولم يقف الانتقام عند حدود أفغانستان بل لقد أعلن وزير الدفاع الأميركي يومها أن الحرب على الإرهاب ستطال ستين بلداً (ويبدو أنه يقصد دول منظمة المؤتمر الإسلامي) وأن هذه الحرب ستمتد إلى أكثر من عشر سنوات، وقد بدأت الولايات المتحدة تنفيذ هذا الوعيد، فبدأت حربها على العراق وكان من بين الذرائع التي قدمت افتعال صلة للنظام العراقي مع "القاعدة" (والطريف أن الولايات المتحدة أعلنت مؤخراً بعد خراب العراق عدم وجود صلة لصدام مع "القاعدة"، وانهارت هذه الذريعة المفتعلة مثلما انهارت ذريعة أسلحة الدمار) ولم يبق من الذرائع غير نشر الديمقراطية التي رأينا نماذجها المرعبة فيما يحدث في العراق من فوضى ودمار. وقد حاولت الولايات المتحدة أن تقدم ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية والإسلامية تحت عنوان الإصلاح، فرفضت الدول هذا التدخل فجاء الإعلان المثير عن إقامة شرق أوسط كبير كان واضحاً للعرب والمسلمين أنه مشروع تقسيم للدول العربية وتفتيت لها إلى دول صغيرة تقام على أسس إثنية وعرقية وطائفية، والهدف محو الهوية العربية، والقضاء على الإسلام لأنهما معاً (العروبة والإسلام) يجسدان الأرضية الفكرية والعقائدية التي تنهض عليها المقاومة. وقد أيقن الاستراتيجيون في الفكر الصهيوني أنه لا يمكن القضاء على مقاومة العرب والمسلمين لمشاريع الصهيونية في التوسع والسيطرة على الشرق الكبير إلا بالقضاء على ينبوع الفكر المقاوم، وهو في الدرجة الأولى (الإسلام) الذي تنهل منه "حماس" و"حزب الله" والمقاومة العراقية عقيدة الاستشهاد دفاعاً عن الوطن وعن الحرية وعن الكرامة والسيادة. ونحن لا ننكر أن هناك استخداماً سيئاً وإجرامياً للدوافع الدينية، ولكننا نحمل الصهيونية المسؤولية عن انتشار التطرف والإرهاب، لأن الجرائم التي يقوم بها الاحتلال الأميركي للعراق، والجرائم التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وجرائم العدوان الوحشي على لبنان، والتهديد المستمر لسوريا وإيران ولكل دول المنطقة العربية والإسلامية، كل ذلك يخلق حالة من الاضطراب المريع في المنطقة، ولابد أن يستدعي هذا الإرهاب المنظم التي يمارسه الاحتلال إرهاباً من ذات النوع، تكاد تفقد الدول سيطرتها عليه. وما حدث قبل أيام في دمشق من هجوم مسلح على السفارة الأميركية دليل على أن الإرهاب ينتشر بدل أن يتضاءل، ولولا أن أجهزة مكافحة الإرهاب في سوريا تمكنت من مواجهة المهاجمين لكانت نتائج الجريمة ضخمة ومريعة، ولاسيما أن المنطقة التي تقع فيها السفارة هي حي سكني مكتظ بالناس والمارة، ومبنى السفارة مليء بالمراجعين من المواطنين والأجانب الذين يعيشون في بلداننا بأمان واطمئنان. ويصعب عليَّ أن أفهم الدوافع التي تجعل شباناً عرباً أو مسلمين يهاجمون الولايات المتحدة في حي أبو رمانة السكني في دمشق ويفجرون أنفسهم وينتحرون على باب سفارة تقع مسؤولية حمايتها وحماية العاملين فيها علينا، وأخطر ما في الأمر أن تكون دوافعهم دينية وأن تعمى عقولهم وأعينهم، فيقتلون أنفسهم وأشقاءهم من مواطنيهم ويظنون أنهم يجاهدون. ولا أنكر أنني أشك في انتماءات الإرهابيين الذين يقومون بأعمال إجرامية فيقتلون الأبرياء، كما يحدث في العراق باسم المقاومة حين يتم تفجير سيارة في سوق شعبي أو اعتداء على حي سكني، فمثل هذه الجرائم لا يمكن أن تقوم بها المقاومة الوطنية الشريفة التي تعرف عدوها وتعرف كيف تقاومه. والدليل أن كل عمليات المقاومة اللبنانية الإسلامية لم تستهدف قط أبرياء، ولم تهاجم سفارات ولم تقم قط بتفجيرات في شوارع أو أحياء سكنية، فكل عملياتها كانت في الأرض المحتلة وضد الجنود المعتدين الذين يوجهون أسلحتهم ضد الشعب اللبناني، وكذلك كانت المقاومة في العراق و في فلسطين ضد الجنود الذين يقتلون الناس ويهدمون منازلهم. إننا نخشى أن تزداد جرائم الإرهاب حيث يستدعيها إرهاب دولة منظم، ونرجو أن تقوم الولايات المتحدة بدراسة نتائج حملتها على الإرهاب الذي تصر على أن تخلط بينه وبين المقاومة الشرعية. ونرجو أن تفحص وسائلها وأدواتها في حملتها الدولية التي جاءت حتى الآن بعكس ما هو معلن من أهداف، فبدل أن تقضي على الإرهاب زادت من حدته ومن حجم انتشاره، وأحسب أنه بات ضرورياً أن تكف الولايات المتحدة عن تهديد الدول الآمنة المستقرة بالحرب والحصار لأن ذلك يزيد من حجم الغضب الشعبي الذي لا يمكن للدول أن تسيطر على تداعياته. إننا في ذكرى الجريمة التي تعرض لها شعب الولايات المتحدة نريد من كل دول العالم أن تقف بقوة ضد كل أنواع الإرهاب ولاسيما ضد الإرهاب المنظم مثل الذي قامت به إسرائيل في لبنان، وقد بات مخزياً أن يجد بعض القادة في العالم مبررات لجرائم إسرائيل المستمرة، وأن يعتبروا ما ارتكبته من جرائم في قانا والقاع وسواهما وما ترتكبه في فلسطين دفاعاً عن النفس، لأن مثل هذا التبرير يجعل الإرهاب شريعة. وإن كانت الولايات المتحدة جادة في القضاء على الإرهاب الدولي فلابد لها من أن تذعن لإرادة الشعوب جميعاً وتقبل بعقد مؤتمر دولي لتعريف الإرهاب حتى وإن كانت نتائج هذا التعريف ستزعج إسرائيل.