ظهر الرئيس جاك شيراك ضمن الصفوف الأولى من الطبقة السياسية الفرنسية منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وذلك بعد بدايات متعثرة حيناً وقوية أحياناً أخرى اتسمت بها مسيرته السياسية طيلة عقد الستينيات، ومنذ ذلك التاريخ سال حبر كثير في الصحافة ودور النشر الفرنسية عن حياة الرجل العامة والخاصة وكتبت عنه أكثر من سيرة ذاتية، كما تناول آخرون ماضيه الإيديولوجي، بل والشخصي أيضاً. والآن وبعد هذه العقود الثلاثة وعلى رغم قرب خروجه المتوقع (العام المقبل) من مقدمة المشهد السياسي ومن قصر الأليزيه أيضاً، ما زال العديد من كتاب السير المحترفين يكتبون سيراً وكتباً حول شيراك، الرجل والحياة، والتوجهات، مدفوعين برغبة دفينة في إرضاء أذواق القراء الفرنسيين النهمين عموماً لمعرفة كل تفاصيل حياة زعمائهم السياسيين، خاصة الجوانب المظلمة والمثيرة من تلك التفاصيل. وفي هذا السياق جاء هذا الكتاب الذي نقدم هنا قراءة خاطفة عنه وعنوانه: "تراجيديا الرئيس: المسرح السياسي من 1986 إلى 2006"، وكاتبه هو الصحفي فرانتز أوليفييه جيسبرت. وللمفارقة ليس هذا أول كتاب يكتبه جيسبرت، الصحفي والكاتب ذي الأصول اليهودية الألمانية والأميركي المولد، عن الرئيس شيراك، فقد خصه بكتاب آخر سنة 1987، حمل اسم الرئيس نفسه كعنوان وحيد له. كما أن له كتباً عن زعماء سياسيين فرنسيين آخرين في مقدمتهم الرئيس فرانسوا ميتران. ووجه الفرق بين كتابي جيسبرت عن شيراك لا يقتصر على اختلاف زاوية النظر فقط، بل يعطي الكتاب الأخير الانطباع بتغيير الكاتب لموقفه بشكل جذري من شيراك، فلم يعد لديه مجال للمجاملة، وهذا شيء مفهوم، من منظور سياسي، فكلام مُستقبِل لنجم سياسي صاعد سنة 1987 ليس ككلام مودِّع لرجل استنفد مشروعه السياسي، وعلى وشك الانسحاب من دائرة السلطة والنفوذ. ولعل الزاوية الأبرز التي قرر جيسبرت تشريح الظاهرة الشيراكية من منظورها هي طبيعة بل طبائع الرئيس نفسه، ومأزق "عشيرة" المحاسيب والمقربين التي تحيط به إحاطة السوار بالمعصم، والتي ينسب إلى صراعاتها الداخلية على وراثة شيراك سياسياً، الكثير من مصاعب رئيس الجمهورية، أو بعبارة الكاتب "تراجيديا الرئيس". ولو تأملنا في الواقع معظم الكتب التي صدرت عن شيراك حتى الآن نجد أنها نظرت إليه من هذه الزاوية تحديداً، التي أصبحت بمثابة "فخ" نصبته له كل السير الذاتية والكتب المؤلفة عنه. والأمثلة هنا أكثر من أن تحصى، سواء في ذلك إيمانويل راتييه في كتابه "وجه شيراك الحقيقي"، وآن فولد في "رئيس محوط جداً"، وفيليب مادلين في "العشيرة الشيراكية". هذا إضافة إلى سيل دافق من الكتب التي نبشت في سلوك شيراك الشخصي مثل فيليب مادلين في "الديغولية والمال"، وفرانسوا كزافييه فرشافي في "شيراك الأسود"، وأريك زمور في "الرجل الذي لا يُحب"، وأخيراً وليس آخراً دنيس جمبار في "اتهموا شيراك.. ارفعوا رؤوسكم". ولئن كانت كتابة السير الذاتية عادة تقوم على البحث والتقصي اللاحق بعد أن يكون كاتبها قد قرر التعريف بالشخص الموضوع، فإن لجيسرت طريقة مختلفة، فهو يكتب السير من واقع قصاصات ومدونات يكون قد جمعها منذ عشرات السنين عن الشخص، فيخرج متى شاء دفاتره القديمة، ويبعث فيها الحياة، ويكتب في ضوئها من جديد، وهذا ما يقول إنه فعله مع شيراك الآن. غير أن الكتاب مع ذلك على رغم دخوله في تفاصيل كثيرة عن حياة شيراك، وطبيعة علاقاته مع مختلف السياسيين الفرنسيين، ركز بشكل خاص على التجاذب الداخلي في المعسكر الشيراكي من جهة بين دوفيلبان وساركوزي وغيرهما، وفي شخصية شيراك نفسه أيضاً من جهة أخرى. ومبرر الكاتب للتركيز على هذه الجوانب بالذات هو ما يعتقده من كون الصحفي "مؤرخاً للحظة"، أي أنه يرصد الأحداث والتفاصيل الآنية والشخصية الصغيرة ويضعها في سياقات مفهومة، وهذا ما يقول إنه فعله في سيرة هي في الواقع عرض واسع لعقدين من الحياة السياسية الفرنسية، بكل مآسيها، وممثليها، ومهازلها، ومفارقاتها. فشيراك مثلاً الذي يصنف سياسياً كزعيم لليمين الحاكم، دأب طيلة حياته السياسية على انتهاج سياسات ليست فقط اشتراكية- ديمقراطية، بل أكثر من ذلك أحياناً اشتراكية- راديكالية، وهي التي جاءت منها معظم مصاعب فرنسا المزمنة، برأي الكاتب. ولا تقتصر لغة الوصف الأدبية الجافة، بل الحادة والباردة، على شيراك، بل يتناول جيسبرت بطرف قلمه اللاذع معظم الوجوه الطافية الآن القريبة أو البعيدة من شيراك، ابتداءً من رئيس الحكومة دوفيلبان وانتهاء ببلادير. ووسط هذه التضاريس المعقدة وهذا الديكور الشائك من المآزق والوجوه والمرايا المتعاكسة يقف طبعاً شيراك نفسه مرة ثانية عصياً على الفهم مستغلقاً بشكل عجيب على التصنيف. يذكر أن بعض المعلقين الفرنسيين لفتوا الانتباه إلى أن جيسبرت ذي الميول اليمينية، لم يكن مدفوعاً الآن في إخراجه لقصاصاته القديمة عن شيراك، وحواراته السابقة معه وعنه، سوى برغبة دفينة في دعم موقف وزير الداخلية الطموح نيكولا ساركوزي، الذي يعتبر "ثائراً" يمينياً على تقاليد "العشيرة الشيراكية". وإذا صح هذا الافتراض، فالكتاب يأتي ضمن مجهود حملة رئاسيات العام المقبل، وهذا ليس بعجيب خاصة بعد أن دخلت "معركة الكتب" و"الكتب المضادة" على خط تلك الحملة من الآن. ولئن تساءل جسيبرت عما سيقوله التاريخ عن شيراك، فإن الجواب كامن في محصلة القراءة الأدبية للعمل، إن قرأناه ليس على أنه سيرة ذاتية، بل باعتباره رواية أدبية، يقوم بدور البطولة فيها شخص يدعى جاك شيراك، يشغل منصب رئيس الجمهورية الفرنسية، وتتقاطع مصائر الشخوص السردية فيها بهذا القدر من الغموض والتعقيد، مفضية إلى مشهد درامي حقيقي، تسدل بعده الستارة. وهذا تحديداً ما لفت الانتباه إليه من طرف خفي كثير من قراء العمل، رابطين بين "مأساة" البطل، بزعم الكاتب، و"مأساة" بلد عجوز يدعى فرنسا، تتلبسه الآن مشاعر متضاربة ليس أدناها الشعور بالخوف بشكل دائم من أن يصحو يوماً قريباً فيجد أن شمسه آلت للأفول. حسن ولد المختار الكتاب: تراجيديا الرئيس: مسرح الحياة السياسية (1986 إلى 2006). المؤلف: فرانتز أوليفييه جيسبرت الناشر: فلاماريون تاريخ النشر: 2006