بعد مضي أسبوعين على المواجهات التي شهدها لبنان في حربه الأخيرة مع إسرائيل -التي كتب عنها البعض في الصحافة العربية، واصفاً إياها بالحرب السادسة- انشغل كل من طرفيها بتفسير المعاني والدلالات المختلفة للنصر الذي زعمه كل منهما لنفسه. إلى ذلك انفردت واشنطن وحدها بغياب أي تردد أو لجلجة ذات صلة بالدور الأميركي في تلك الحرب، وبدلاً عن التردد واللجلجة، فقد ساد يقين راسخ هناك. أما في لبنان فقد أعرب حسن نصرالله زعيم "حزب الله" عن مفاجأته بقرار إسرائيل شن حرب عليه بسبب اختطاف مقاتليه لاثنين من جنودها. وقال إنه لو علم باحتمالات اتخاذها قراراً كهذا لما أمر باختطاف جندييها مطلقاً. أما في إسرائيل، وعلى رغم أمر رئيس وزرائها إيهود أولمرت بإجراء تحقيق محدود عن سير الحرب -فقد هبّت رياح الانتقادات والمعارضة العاتية ضد حكومته من قبل أولئك المطالبين بإجراء تحقيق أوسع وأكثر استقلالاً عن الأجهزة الحكومية. وفي المقابل فقد تساءلت افتتاحية مندهشة نشرتها صحيفة "هآرتس" عن الأسباب التي تدعو الإسرائيليين وتحملهم على كل هذا الحد من المطالبة بإجراء تحقيق حول "نصر" حققوه سلفاً! ولدى عودتنا مرة أخرى إلى لبنان، نلاحظ أن الشعور العام بأن إسرائيل قد واجهت مع "حزب الله" أشد وأشرس أعدائها العرب، وأنه حال دونها وتحقيق مآربها وأهدافها التي شنت من أجلها عدوانها الأخير عليه، قد غطى عليه حجم الدمار والمآسي التي خلفتها تلك الحرب وراءها. وسرعان ما طفت إلى السطح الخلافات والانقسامات التي أبطأتها وأجلتها في صفوف اللبنانيين، شراسة ووحشية الهجمات الإسرائيلية، على بيوت ومرافق الالمدنيين العزل. وفي الطرف الآخر من الحرب، فإن الحوار الإسرائيلي الدائرة الآن لم يقتصر على مثالب الأداء الحربي ونقاط الضعف والثغرات في الدفاع الإسرائيلي فحسب، وإنما طال كذلك الأهداف والدوافع التي شنت من أجلها الحرب نفسها، وثارت التساؤلات حول ما إذا كان ممكناً وضع حد لها، قبل أن تصل إلى الكارثة التي بلغتها في الجانب الإسرائيلي؟ وفي معرض هذا الحوار عبّر بعض ضباط وقادة الجيش الإسرائيلي عن اعتقادهم بضرورة تمحور المناقشات حول جانبين محددين من تلك الحرب. أولهما الفترة التالية للأسبوع الأول من الحرب، وهي الفترة التي اعتقد فيها الضباط الميدانيون إمكان وقفها، بسبب تحقيقها للأهداف العسكرية الممكن إحرازها وقتئذ. وثانيها عطلة نهاية الأسبوع الأخير من القتال. يشار إلى أن إسرائيل قد تعمدت زيادة عدد قواتها وتوسيع حملتها في وقت كانت تشير فيه كل الأدلة والشواهد إلى اقتراب الأمم المتحدة من بلورة مشروع قرار يقضي بالوقف الفوري لإطلاق النار بين الجانبين. وبما أن إسرائيل لم تفطن لهذه التطورات الحربية، ولم ترعوِ عن توسيع حملتها، فقد كان حصادها خلال الأيام الأخيرة السابقة لقرار وقف إطلاق النار، أكبر عدد من ضحاياها وقتلاها في تلك الحرب. وكان "حزب الله" قد كثف من إطلاق صواريخه على المدن والضواحي الشمالية من إسرائيل، بينما تعمد الجيش الإسرائيلي إمطار المواقع اللبنانية الكثيفة السكان بوابل من قنابله العنقودية، ما رفع عدد الضحايا والقتلى بين الذين عادوا منهم إلى ديارهم بعد أن لاحت نذر وقف إطلاق النيران في الأفق. على أن حسن نصرالله وعلى رغم اعترافه بقرار شن الحرب المفاجئ، لم يعتذر مطلقاً عن تسببه في ذلك القرار. بل على نقيض ذلك تماماً، فهو يعتقد أنه الفائز بها، وينحي باللائمة على إسرائيل لشنها حرباً عليه. وكان نصرالله قد بيّن موقفه في إحدى خطبه السابقة لاندلاع الحرب، وذلك بإشارته إلى حرب تدبرها إسرائيل ضد "حزب الله"، على أن تشن فعلياً خلال شهر سبتمبر أو أكتوبر من العام الجاري. وعلى الرغم من أنه لم يشر من قريب أو بعيد إلى أن عملية اختطاف الجنديين قد استفزت إسرائيل ودفعتها إلى توجيه ضربة استباقية لحزبه، إلا أنه يفهم من حديثه أن على لبنان أن يشكر "حزب الله" على تلك العملية، لكونها أرغمت إسرائيل على تسريع حربها عليه دون أن تستعد عملياً وبما يكفي لشن تلك الحرب. وعلى رغم فهم الكثير من اللبنانيين والعرب عموماً لحقيقة أنه لا يمكن تفسير كل هذا الدمار والقتل الذي ألحقته إسرائيل بالمواطنين اللبنانيين وبلادهم بسبب اختطاف اثنين فقط من جنودها، إلا أن من الطبيعي جداً أن يوجه بعض اللوم فيها إلى "حزب الله" وقيادته، لاسيما من قبل المجموعات والساسة الذين يبدون قلقاً متزايداً على تنامي قدراته العسكرية. ولذلك فقد تساءل الكثير من اللبنانيين: ما الذي يعطي حسن نصرالله وحزبه حق ارتكاب خطأ فادح كهذا باسمهم جميعاً في تقدير ردود فعل إسرائيل المحتملة على اختطاف حزبه لاثنين من جنودها؟ خاصة لأن عواقب وتداعيات رد الفعل الإسرائيلي المحتمل، جاءت مؤلمة وكارثية إلى هذا الحد الذي يشهده لبنان وشعبه بأسره؟! والغريب أن الأمر نفسه حادث في إسرائيل، حيث لم تقدم الحكومة الإسرائيلية على تحميل نفسها أية مسؤولية إزاء ما حدث، على رغم حمى الحوار الدائر الآن في إسرائيل عن منطلقات ودوافع تلك الحرب ابتداءً! شبلي تلحمي أستاذ بجامعة مريلاند وكبير كبير مؤسسي مركز سابان التابع لمؤسسة بروكينجز ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس انجلوس تايمز وواشنطن بوست"