تغير النظام الدولي تغيرات جوهرية بعد سقوط النظام الثنائي القطبية الذي دار في جنباته الصراع الضاري بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية. وسرعان ما برز نظام دولي جديد أحادي القطبية، تنفرد فيه الولايات المتحدة الأميركية بالهيمنة العالمية باعتبارها القطب الأوحد. ونتيجة لهذا الوضع غير المسبوق سقطت النماذج القديمة في العلاقات الدولية، وصيغت- كما ذكرنا من قبل- نظريات متعددة لكي تحل محلها. ومن أبرزها نظريات "نهاية التاريخ" و"الفوضى" و"نحن والآخرون". وفي هذا السياق الذي حاول فيه باحثون استراتيجيون من بلاد مختلفة الاجتهاد لصياغة نظريات جديدة تساعد على فهم نص العالم المعقد، وتحاول التنبؤ بمساره على المدى المتوسط، صغتُ نظرية أطلقت عليها "النموذج التوفيقي العالمي". كان ذلك عام 1990 حين غادرتُ القاهرة حيث كنت أشغل منصب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، لكي أتولى لمدة محددة منصب أمين عام منتدى الفكر العربي. وأحسست باعتباري باحثاً في العلم الاجتماعي أن انهيار العالم القديم يستدعي أن أصوغ إطاراً نظرياً جديداً، أحاول من خلاله وصف وتفسير الوقائع الدولية التي أخذت تهب على الناس في كل مكان! ونتيجة للحاجة إلى نظريات جديدة لفهم التطورات العالمية ظهرت صراعات فكرية حادة في الفكر الغربي، دارت حول موضوعين، الأول يثير سؤالاً شهيراً: هل هزمت الماركسية – نتيجة لسقوط الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الاشتراكية- هزيمة ساحقة، وهل ستحل الليبرالية والرأسمالية محلها؟ والموضوع الثاني يتضمن سؤالاً مهماً هو: هل يمكن صياغة نظرية صورية محكمة (على غرار الماركسية) للرأسمالية، تدشن سقوط الشمولية وتعلن بداية السيطرة الشاملة للرأسمالية؟ الموضوع الأول دار فيه الصراع بين "فوكوياما" والعالم الاقتصادي الأميركي الشهير "جالبرث". والموضوع الثاني دار فيه الصراع بين "بيتر برجر" و"جاك بارزن". بالنسبة للموضوع الأول نشر فوكوياما مقالته التي أثارت كثيراً من الجدل وعنوانها "نهاية التاريخ" في مجلة "المصلحة القومية"، استعار فيها بعض أفكار هيجل عن حركة التاريخ، ليؤكد أن التاريخ قد وصل لنهايته، بعد انتصار الليبرالية انتصاراً ساحقاً على الشمولية، وهيمنة النموذج الرأسمالي. وهذه الأفكار هي بذاتها التي يصفها الاقتصادي الأميركي الشهير "جالبرث" بالإيديولوجية التبسيطية وذلك في محاضرة ألقاها بجامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة بعنوان: "اليمين مخطئ... لماذا". ووجهة نظره أن هذه الإيديولوجية تصور عالماً ثنائي القطبية بنحو صارم حيث تقوم الشيوعية في جانب، والرأسمالية على الجانب الثاني، وتوجد كلتاهما في صورتها الخالصة. والتصور الذي تقدمه هذه الإيديولوجية أنه بعد سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية، ستشق هذه البلاد طريقها إلى الرأسمالية تصور بعيد عن الواقع لأن المسألة أعقد من هذا بكثير. أما الموضوع الثاني فقد دار فيه الصراع -وإن كان بشكل غير مباشر- بين عالم الاجتماع الأميركي "بيتر برجر" الذي صاغ لأول مرة في تاريخ الفكر الغربي نظرية صورية شاملة للرأسمالية في كتابه "الثورة الرأسمالية" الصادر عام 1978، والذي يرى فيه أن الرأسمالية أصبحت نظرية كونية قابلة للتطبيق في كل مكان بغض النظر عن الفروق الثقافية بين أمم العالم، لأنها هي التي تضمن الحرية والعدالة والرخاء، وبين المؤرخ الأميركي "جاك بارزن" والذي نشر مقالة بالغة الأهمية بعنوان "مقولة الديمقراطية"، نفي فيها نفياً قاطعاً وجود نظرية موحدة للديمقراطية، وأكد وجود عديد من الأفكار الديمقراطية التي لا يربطها نسق فكرى واحد. وذهب أبعد من ذلك حين أكد أن الديمقراطية الأميركية -مثلها في ذلك مثل الديمقراطية الإنجليزية- لا يمكن تصديرها للخارج، لأن أهم ما في الديمقراطية ليس مقولاتها التي تقوم عليها أياً كانت، ولكن في طريقة تطبيقها، وفي المؤسسات التي ستقوم على آلية التطبيق، وهذه مسألة لصيقة بالتاريخ الاجتماعي الفريد لكل مجتمع، وهى الحاسمة في موضوع الممارسة الديمقراطية. هذا هو ميدان الصراع الثاني في مرحلة تشكيل النظام العالمي الجديد، بين الإطلاقية الأيديولوجية والنسبية الفكرية. ولو حاولنا القراءة المتأملة لمؤشرات التغيرات الثقافية والأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، يمكننا أن نقرر أنه سيظهر نمط سياسي اقتصادي ثقافي توفيقي جديد، سيحاول أن يؤلف تأليفاً خلاقاً بين متغيرات تبدو في الظاهر متناقضة، وستمر هذه المحاولة في مرحلة تتسم بالصراع الحاد العنيف، والذي قد يأخذ شكل المجابهة العسكرية المحدودة في هوامش النظام وليس في مركزه. ستكون هناك محاولات للتوفيق بين: - الفردية والجماعية، على الصعيد الإيديولوجي والاقتصادي والسياسي. وينبغي أن نضع في الاعتبار هنا بعض الكتابات الفرنسية والإنجليزية المهمة حول إعادة النظر في مفهوم الفردية، من أبرزها كتاب حرره عالم السياسة الفرنسي "جان لوكا" بعنوان "عن الفردية" صدر عام 1986. - بين العلمانية والدين. ويلفت النظر هنا كتابات "بيتر برجر" والتي ذكر فيها أن الإغراق في العلمانية في الحضارة الغربية الحديثة كان غلطة استراتيجية تدفع الآن ثمنها الثقافة المعاصرة في صورة العودة العنيفة إلى الدين والتي تأخذ أحياناً شكل الجماعات المتطرفة. - بين عمومية مقولة الديمقراطية وخصوصية التطبيق في ضوء التاريخ الاجتماعي الفريد في كل قُطر. - بين القطاع العام والقطاع الخاص، وظهور صور مستحدثة من الملكية لم تكن معروفة من قبل. في دراسة نشرت حديثاً عرضت خمس صور من الملكية يراد الاختيار بينها في أوروبا الشرقية وهى: تمليك العاملين، الملكية الإدارية، الملكية المختلطة، الملكية المدنية، الملكية المهنية. - بين الاستقلال الوطني والاعتماد المتبادل. - بين المصلحة القطرية والمصلحة الإقليمية (صيغة التجمعات الاقتصادية الإقليمية). - بين الأنا والآخر على الصعيد الحضاري. - بين الدولة الكبيرة المركزية في مواجهة التجمعات المحلية والتجمعات الصغيرة التي تسودها اللامركزية. - بين تحديث الإنتاج (وزيادة الاستهلاك وتنويعه)، والبحث عن معنى للحياة في نفس الوقت في ضوء العودة إلى مفهوم التقدم بدلاً من مفهوم التنمية. - بين زيادة معدلات التنمية في البلاد المتقدمة ومساعدة دول العالم الثالث على اللحاق، وفقاً لمقولة "ويلي برانت" مستشار ألمانيا السابق نحن جميعا، ويقصد الإنسانية، في قارب واحد. - بين الإعلام القطري والإعلام العالمي الذي ستكون له السيادة في الحقبة القادمة بفضل تكنولوجيا الاتصال العالمية. بعبارة موجزة، سيتسم النموذج التوفيقي العالمي الجديد بسمات أربع، لو استطاعت قوى التقدم أن تنتصر على قوى الرجعية، وهذه السمات هي: 1 – التسامح الثقافي المبنى على مبدأ النسبية الثقافية في مواجهة العنصرية والمركزية الأوروبية والغربية. 2 – النسبية الفكرية بعد أن تنتصر على الإطلاقية الإيديولوجية. 3 – إطلاق الطاقات الخلاقة للإنسان في سباقات ديمقراطية على كافة المستويات، بعد الانتصار على نظريات التشريط السيكولوجي والتي تقوم على أساس محاولة صب الإنسان في قوالب جامدة باستخدام العلم والتكنولوجيا. 4 – العودة إلى إحياء المجتمعات المحلية، وتقليص مركزية الدولة. 5 – إحياء المجتمع المدني في مواجهة الدولة التي غزت المجال العام، ولم تترك إلا مساحة ضئيلة للمجال الخاص. 6 – التوازن بين القيم المادية والقيم الروحية والإنسانية. إننا نشهد –فيما نرى– المرحلة الأخيرة من حضارة عالمية منهارة كانت لها رموزها وقيمها التي سقطت، وبداية تشكل حضارة عالمية جديدة شعارها "وحدة الجنس البشرى". كانت هذه هي الملامح البارزة للنظام الدولي الجديد الذي وضعت تصوراً له في بداية التسعينيات، ونشرت دراسة عنه في كتابي "الثورة الكونية والوعي التاريخي" الذي نشر عام 1995. وحين أتأمل مكونات هذا النظام الدولي الجديد في ضوء الممارسات العالمية والإقليمية بعد حوالى عشر سنوات من تصوره، اكتشف كم كان هذا السيناريو لنظام دولي جديد مثالياً خالصاً، وبعيداً عن الواقع الفعلي الذي عشناه في عالمنا المضطرب! النظام الدولي الجديد – في تقديري الآن– يحتاج إلى تصورات أكثر واقعية!