لنقف اليوم دقيقة صمت حداداً على أرواح ضحايا الحادي عشر من سبتمبر من ضحايا مركز التجارة العالمي بنيويورك و ضحايا الحرب على الإرهاب في أقطار المعمورة ومن سقطوا في دائرة الإرهاب والإرهاب المضاد، دقيقة صمت طلبها الرئيس الأميركي من مواطنيه اليوم في الذكرى الخامسة لهجوم الحادي عشر من سبتمبر الذي أسفر عن مقتل ما يزيد عن الثلاثة آلاف شخص. نعم لنقف دقيقة صمت لكن ليس على الأبرياء الأميركيين فقط، دقيقة صمت حداداً على مبادئ إنسانية انتهكت باسم محاربة الإرهاب ومازالت تنتهك، مبادئ عملت على إرسائها أجيال تجسدت في القرن العشرين بصورة قوانين ومعاهدات دولية كمعاهدات جنيف الأربع التي تؤسس للقانون الدولي الإنساني في أوقات الحروب ومعاهدات حقوق الإنسان التي تأسست على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. اتفاقيات صدّقت عليها غالبية الدول في العالم كاتفاقية مناهضة التعذيب باعتبارها من أكثر الاتفاقيات انتهاكاً بعد أحداث سبتمبر. قوانين وطنية لحماية الحريات المدنية والشخصية قلصت وصودرت معها الحريات باسم الأمن الوطني، أصبح معها الخوف من يوم آخر كالحادي عشر من سبتمبر محركاً لتتحول الديمقراطيات إلى دول تسلطية من الطراز الأول، فشرَّعت الديمقراطيات على إثره أكثر القوانين انتهاكا لحقوق الإنسان. لقد نجح الإرهاب بامتياز في تغيير ملامح الدول الغربية وأدخل مفردات لم تعهدها شعوبها كـ"الإسلاموفوبيا"، أصبح العربي المسلم الشرق أوسطي متهماً لم تثبت إدانته بعد. خمس سنوات تضاعفت معها حدة آثار الحادي عشر من سبتمبر، أعيد خلالها نشر أطروحات صراع الحضارات وأكدت مقولة أن الولايات المتحدة لازالت القوة العظمى المتوحدة في النظام الدولي الحالي، وأن مفاتيح اللعبة الدولية لازالت أميركية. والسؤال الأدعى للطرح هنا: هل العالم اليوم أكثر أمناً مما كان عليه قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001؟ قرر مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع صرف 200 مليون دولار لإنشاء خلية استخبارات تحصر مهمتها فقط بمطاردة أسامة بن لادن زعيم تنظيم "القاعدة"، خبر مثير تناقلته وسائل الإعلام، مع ملاحظة أن هذا الإجراء اعتمد في إطار موازنة 2007 أي بعد خمس سنوات من الأحداث، فالمطلوب رقم واحد في العالم حياً أو ميتاً مازال على رأس تنظيم "القاعدة" في مكان ما، وهو تجسيد لفشل الاستخبارات الأميركية ومعها الآلة العسكرية الأميركية، وهو يحمل جزءاً من الإجابة على تساؤل الأمن، فبن لادن لازال رمزاً حياً للتهديد، للخوف، للإرهاب. صحيح أن استهداف بن لادن بحد ذاته وحتى القضاء عليه لن يقضي على الأفكار التي جسدها كشخص وكتنظيم، لكن الأثر النفسي لبقاء زعيم التنظيم يعكس الفشل الذريع للقوة العظمى، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تتمكن الإدارة الأميركية رغم كل السياسات التي اتعبتها من تجفيف منابع الإرهاب كما سمتها بمصادرة الأموال، بتضييق الخناق على الحكومات العربية "الصديقة" بالضغط المريع عليها لتغيير المناهج وتضييق الخناق على الجماعات الإسلامية التي قد تغذي أفكار الشباب بالفكر المتطرف. فشلت الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب رغم الآلة العسكرية التي تغذيها مراكز الأبحاث، فشلت الإدارة الأميركية في اتخاذ القرارات الصائبة المبنية على فهم حقيقي لمنطقة الشرق الأوسط، لم تحاول الإدارة الأميركية أن تفهم أو تتفهم الجذور الفكرية للتطرف ومن أين يستمد هؤلاء خطابهم وكيف يجد خطابهم هوى في نفس شعوب المنطقة، بل على العكس من ذلك تطايرت الاتهامات للحكومات العربية الصديقة بأنها تغذي منابع الإرهاب، وأصبحت إحدى الدول العربية بالرغم من معاناتها من الإرهاب عنواناً سهلاً في الإعلام الأميركي للإرهاب. أصبح تبسيط الحقائق سياسة للإدارة الأميركية، فالرئيس العراقي السابق متحالف مع "القاعدة" وبعلاقة تعدٍّ يصبح العراق مستهدفاً في الحملة الدولية لمحاربة الإرهاب. لقد شرَّعت الإدارة الأميركية بعد الحادي عشر من سبتمبر لعقيدة الرئيس الأميركي بوش المتمثلة بسياسة توجيه الضربات الوقائية لحروب متتالية شهدها الشرق الأوسط بدءاً بالحرب في أفغانستان، ثم الحرب في العراق، ومازالت طبول الحرب تقرع ضد إيران. بعد خمس سنوات لا نملك إلا أن نقول لقد فشلت واشنطن عسكرياً وأمنياً وفكرياً، فمازالت الإدارة الأميركية تلاحق شبح الإرهاب دون جدوى، ففشلت في القضاء على الإرهاب، ومازال شبح بن لادن وأعوانه يلاحقها ويلاحق الشعب الأميركي، فأفغانستان أولى أرض المعارك لازالت تشهد معارك بين القوات الأميركية و"طالبان" رغم التعتيم الإعلامي طوال السنوات الماضية على ما يجرى خارج كابول. والعراق يجسد أكبر الهزائم الأميركية رغم سقوط العراق السريع ورغم محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، فالعملية السياسية لازالت تراوح مكانها، والحرب الأهلية الطائفية تستعر على أرض العراق وأحاديث الانفصال تحولت إلى أفعال رمزية في البدء ستتحول يوماً لحدود على الأرض. العراق رمز الديمقراطية للدول العربية والشرق أوسطية كما تصورت الإدارة الأميركية سقط لتسقط معه الأطروحات الديمقراطية وثقافة الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، والتغيير نحو الأفضل التي استبشرنا بها كلنا في يوم ما. شرق أوسط كبير أو شرق أوسط جديد، مازال الشرق الأوسط أكثر المناطق سخونة، فبؤر الإرهاب والتطرف والتشدد لازالت تنتج فكراً متطرفاً تغذيه السياسات الأميركية والانحياز الأميركي السافر لإسرائيل وقبل كل ذلك أصبح لأرض المعركة مع الولايات المتحدة عنوان هو العراق. "من ليس معنا فهو ضدنا" معادلة بسيطة ألغت الألوان التي تصبغ العلاقات الدولية، إلى أبيض أم أسود أخيار وأشرار، تبسيط لواقع سياسي شديد التعقيد والتشابك. سقط ضحايا الحادي عشر من سبتمبر لا على الأراضي الأميركية لكن انتشرت دماء الضحايا بعد أن غدت الحرب على الإرهاب شعاراً حملته واشنطن كما حملته إسرائيل وجوارها العربي، برز إرهاب الدولة بوضوح في تعاملها مع مواطنيها من المشتبه بانتمائهم للتيارات الإسلامية، سقطت الديمقراطيات العريقة والوليدة في الحرب على الإرهاب وتراجع المؤيدون لمشروع دمقرطة الشرق الأوسط إن كانت الدمقرطة تعني انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في جوانتانامو والسجون السرية وأشهر فضائح القرن الحادي والعشرين في سجن "أبو غريب"، وسياسة دعم إسرائيل في حربها الأخيرة على لبنان. دقيقة صمت حداداً على لحظة تاريخية غيرت العالم لكنها لم تغير الأسس التي بنت عليها الإدارة الأميركية سياساتها في المنطقة وبدلاً من القضاء على أسباب الإرهاب والكراهية عملت السياسات الأميركية على صناعة أسباب جديدة للكراهية والحقد والإرهاب في المنطقة قد تؤدي لحادي عشر من سبتمبر جديد.