تحفل الأدبيات الأميركية هذه الأيام بمقالات متعددة تتحدث عن الخطر الصيني الذي يتهدد الخليج. فمن كتاب "نعوم شومسكي" الجديد حول الدول الفاشلة إلى مقالة "جيفري كمب" في حولية "المصالح الوطنية"، هناك اهتمام كبير بموضوع التنافس الحاد بين الولايات المتحدة ودول الشرق الأقصى كالصين والهند على مصادر النفط والطاقة، سواءً كان ذلك في منطقة الخليج العربي، أو في القارة الإفريقية. ويبدو أن الصين قد أصبحت لعدد من الأكاديميين الأميركيين الفزّاعة الشرقية الجديدة التي حلَّت محل الاتحاد السوفييتي السابق. وبدلاً من الحديث، كما كان الحال في الماضي عن زحف الجيش الأحمر إلى المياه الدافئة في الخليج، تنامى الحديث مؤخراً عن رحلة "التنين الأصفر" إلى غرب آسيا، وشرق أفريقيا. ولاشك أن النمو الاقتصادي الكبير في البلدان الآسيوية، خاصة في الصين والهند، وبقية دول جنوب شرق آسيا، بعد خروجها من أزمتها الاقتصادية الخانقة في نهاية التسعينيات، قد دفع إلى زيادة أسعار النفط والغاز بشكل لم يسبق له مثيل. وقد دخلت الدول المنتجة للنفط نفسها، بسبب نموها الاقتصادي خلال العامين الماضيين، كسوق رئيسية وعنصر طلب للنفط المكرر. وتستورد إيران منذ نهاية التسعينيات كميات كبيرة من البنزين بسبب ضعف قدرتها على تكرير احتياجاتها النفطية. كما أن شركات نفطية خليجية ولأول مرة في تاريخها استوردت خلال شهري أغسطس الماضي وسبتمبر الحالي 160 ألف طن من المواد النفطية اللازمة لتوليد الطاقة الكهربائية في بعض محطات الكهرباء، وذلك لمواجهة الطلب المتزايد على استهلاك الكهرباء في أشهر الصيف الحارة. وهذا يعني أن التنافس على النفط قد أخذ بعداً عالمياً. في الوقت الذي تحاول الولايات المتحدة فيه زعزعة استقرار بلدان المنطقة بدءاً من فلسطين وليس انتهاء بالعراق وأفغانستان آملة أن تتحمل في المدى القصير التكاليف الاستراتيجية والاقتصادية لهذه الحروب، على أن تتم لها في المدى الطويل الهيمنة الكاملة على منابع النفط، وأن تكون متحكِّمة في المستقبل بأسواق النفط والطاقة بشكل كامل. ولاشك في أن هذا المنطق الذي يحكم الإدارة الأميركية في الوقت الحاضر منطق لم يستنزف طاقته، أو يصل إلى منتهاه، ففي جعبة مخططي "البنتاجون" ومكتب نائب الرئيس خطط كثيرة، لتصدير مزيد من العنف إلى هذه المنطقة من العالم. ومثل هذا المنطق منطق أعوج، فالحرب من أجل الهيمنة على الموارد الأولية، تخلق متناقضاتها بشكل غريب. فكلما زادت النبرة الحادّة للسياسيين، كلما زادت أسعار النفط. وكلما تساقط المزيد من الضحايا في بغداد أو في كابول، كلما ارتفعت بورصة أسعار النفط في روتردام وفي نيويورك. ولذلك فإن المنظور الاستراتيجي القصير الأمد يخلق تناقضاً مباشراً في نفس الفترة الزمنية، كما أنه يخلق تناقضات استراتيجية أخرى في الأمد البعيد. في الأمد القريب، فإن عنفوان الخطاب السياسي للإدارة الأميركية الحالية، والحالة العدائية التي تتحدث بها عن الإسلام والمسلمين، ناهيك عن مصالح العرب وحقوقهم، تقابل من القوى الشعبية في العالم العربي والإسلامي بامتعاض شديد، إن لم يكن بخطاب سياسي مُضاد ومتشنج. وفي الأمد البعيد، فإن الدول الأخرى كالصين والهند وحتى دول الاتحاد الأوروبي، تحاول بدورها منافسة الولايات المتحدة في أماكن كانت وإلى وقت قريب ساحة مفتوحة للمصالح الأميركية، وبشكل أحادي في بعض الأحيان. وتختلف آليات العمل لهذه القوى عن آليات العمل الأميركية، فالنموذج الأميركي في الوقت الحاضر يعمد إلى إشعال نار حروب إقليمية متعددة أو الاستفادة من بعض بؤر التوتر والصراع، بحيث يمكن إرسال قوات "المارينز"، لتخفيف التهديدات وتجميد عناصر الصراع، بشكل يسمح للشركات والمصالح التجارية الأميركية بأن تبدأ عملها في هذه البقاع، بعد إحلال الاستقرار، محل الصراع والتوتر السابقين. ومع أن لنا تحفظات على مثل هذا النموذج، كما هو واضح في الحالة العراقية، فإن النموذج الصيني، وحتى الأوروبي يختلف بشكل كبير. فالصينيون والأوروبيون ليسوا مهتمين بشكل واضح بالأنشطة العسكرية إلا في المناطق الإقليمية المتاخمة لحدودهم، كما في الحالة اللبنانية لدول الاتحاد الأوروبي، أو حالة "تايوان"، والجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي للحكومة الصينية. أما ما عدا ذلك فإن البحث عن النفط والمصالح الاقتصادية يبقى العامل الرئيسي وراء اندفاع هذه القوى الإقليمية نحو مصالحها التجارية والاقتصادية في منطقة الخليج العربي. وقد وضحت الصورة بالنسبة للصين التي أبرمت اتفاقيات نفطية مع المملكة العربية السعودية والحكومة الإيرانية، كما أنها نجحت في الحلول مكان الشركات النفطية الأميركية التي اضطرت إلى مغادرة السودان لأسباب سياسية وأمنية. ونجحت الصين كذلك في إيجاد مناطق نفوذ "تجاري" وسياسي بحت في بنائها لميناء "جودار" في باكستان، وإنشائها لسوق "التنين" الضخم في دبي الذي يمثل فيه عدد كبير من الشركات الصينية، كما أن لها منطقة تجارية حرة في بورسعيد بمصر. وبدأت شركات النفط الصينية في اقتناص فرص لامتيازات نفطية جديدة في نيجيريا وفي كينيا وحتى في فنزويلا وكوبا. وقد أثار هذا النشاط التجاري والسياسي حنق بعض الساسة الأميركيين، بحيث أصبحوا يتحدثون عن غزو صيني اقتصادي واستراتيجي لبلدان أميركا الجنوبية والوسطى. وحتى كندا، فإن انزعاجها من بعض السياسات الأميركية نحوها كعضو في منظمة "النافتا" قد دفع بوزير الموارد الطبيعية الكندي إلى توجيه جزء من صادرات كندا النفطية نحو الصين، ويأمل هذا الوزير أن تصبح الصين سوقاً لحوالى ربع حجم الصادرات النفطية لبلاده. كما أن دول الاتحاد الأوروبي التي ماطلت لأكثر من سبعة عشر عاماً في توقيع اتفاقية تجارة حرة مع دول الخليج، دفعتها الزيادات المتتابعة في أسعار النفط والمنافسة المحمومة بين الدول المستهلكة، إلى الحديث مجدداً عن رغبتها في إبرام اتفاقية تجارة حرة مع مجلس التعاون، قبل نهاية العام الحالي. أما التنافس الهندي على الوصول إلى منابع النفط فإنه يأخذ أشكالاً متعددة ونماذج مختلفة عن النموذجين الأميركي والصيني، وهو يحتاج بالفعل إلى دراسة متأنية. والنقطة الرئيسية التي ينبغي الالتفات إليها اليوم، هي كيف يمكن لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أن تدير، وأن تبقي على هذا التنافس الحاد بين الدول المستهلكة عبر سياسة توازن بين هذه القوى، كي تستطيع أن تحصل على أكبر عائد سياسي واقتصادي واستراتيجي من لهفة المستهلكين على الحصول على هذه السلعة التي حبا الله بها هذه البلدان. ولاشك أن دول الخليج لديها اليوم العديد من المفكرين ومراكز الأبحاث التي تسمح لها بوضع الخطط المتوازنة لإدارة دبلوماسية النفط والغاز في القرن الحادي والعشرين.