مرة جديدة أعود إلى تأكيد ما أثبتته الوقائع: بعد فشل الحرب الإسرائيلية على لبنان، لم يعد ثمة خوف من إسرائيل بل ثمة خوف فيها، وخوف عليها من داخلها! الثقة بالحكومة مهزوزة. والثقة بالرئيس مهزوزة. والثقة بالجيش والأسلحة مهزوزة. الاتهامات تتوالى وتوجّه في كل اتجاه. وتبادل المسؤوليات حول فشل الحرب وتكلفتها مستمر, والضياع سيد الموقف. أولمرت يهرب من لجنة تحقيق حكومية. ومنتقدوه يحملونه المسؤولية ويعتبرون هروبه إدانة له، ويبدون خوفاً على المستقبل. يرمي بالونات سياسية عن رغبة في لقاء رئيس الحكومة اللبنانية وكأنه داعية سلام، فيأتيه الجواب من بيروت: "لا حوار مع قتلة وإرهابيين وسفاحين، وما يحكم علاقة لبنان وإسرائيل هو اتفاق الهدنة والقرارات الدولية، وما على إسرائيل إلا الالتزام بتطبيق القرار 1701". تحاول حكومة إسرائيل التهرب من تطبيق القرار. تفرض شروطاً. تمارس ابتزازاً. تكثف ضغوطاً. تناور. علـّها تحقق مكاسب. وترفع معنويات الداخل. وعلَّ لبنان يتراجع ويضعف. شددت الحصار عليه. هددت بعدم الانسحاب. استخدمت كل الأساليب، فكان الموقف اللبناني صلباً متماسكاً وقوياً. الحكومة متماسكة وقوية رغم رغبة البعض داخلياً في الإطاحة بها. صمدت وصمد معها لبنان، واهتز الذين يريدون اهتزازها لابتزازها وابتزاز لبنان والهروب من استحقاقات أساسية مهمة على رأسها إقرار تشكيل المحكمة الدولية للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه. صمدت الحكومة ورفع رئيسها الصوت بشدة في وجه كل العالم: "لسنا مقتنعين أن المجتمع الدولي يرفض الحصار ويؤيد موقف لبنان والقرار 1701 وتبقى إسرائيل أقوى منه ورافضة كل شيء! لن نغير رأينا. ولن نتنازل عن سيادتنا. ولم يكلف أحد إسرائيل بتنفيذ القرار الدولي الأخير، الذي لم يتحدث عن انتهاك السيادة اللبنانية وتسليمها إلى الآخرين"! إلى جانب الحكومة ورئيسها، كان ثمة المجلس النيابي ورئيسه الذي تميزت قيادته بحكمة عالية وحس كبير من المسؤولية وإدراك لمخاطر ما يجري. دعا النواب إلى الاعتصام المفتوح. فتجاوبوا. وتجاوب معهم الإعلام. تطورت المبادرة، تحولت إلى دعوة لاعتصامات مفتوحة في برلمانات العالم. الإتحادان البرلمانية. تجاوب عدد كبير منها. وتحركت الجاليات. فتحرك الإعلام الدولي والنقابات والدبلوماسيات المتنوعة وكان دعمٌ للموقف اللبناني الذي كان نموذجياً في التكامل بين الحكومة والمجلس النيابي. وتعززت الوحدة الوطنية وأكد الجميع أن الاعتصام ومواقف الحكومة هي بداية الخطوات وقد تليها خطوات أخرى أكثر تصعيداً وتحدياً إذا لم تبادر الدول الكبرى وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية إلى ترجمة تأييدها للقرار 1701 إلى مبادرات ضغط على إسرائيل للالتزام بمضامينه، بدل توفير التغطية الكاملة لها كما فعل معظم أركان الإدارة الأميركية. استمرت المناورات والتهديدات والابتزاز والمماطلات الإسرائيلية أسبوعين، حتى رضخت إسرائيل لأمرين: الإعلان عن استكمال انسحاب قواتها من الجنوب. ثم الإعلان عن فك الحصار على لبنان، الذي كلفه خلال أسبوعين قيمة ما جمعه من مساعدات مالية وأكثر! ومع ذلك قرر لبنان استعادة دوره وتعويض ما لحق به من خلال إصرار حكومته ومؤسساته وقطاعه الخاص على العودة سريعاً إلى حركة التبادل التجاري والاقتصادي مع العالم وتحريك الدورة الاقتصادية في البلاد رغم الدمار الهائل والخسائر الكبيرة، مستنداً في ذلك إلى إرادة وطنية قوية وإيمان بالمستقبل وإلى دعم الأشقاء والأصدقاء. وفي هذا المجال تقتضي الأمانة أن نتوجه مجدداً إلى المملكة العربية السعودية -مملكة المبادرات الكريمة- وإلى قائدها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ومن خلاله إلى الحكومة السعودية والشعب السعودي وكل القادة السعوديين والمؤسسات السعودية بالشكر، على المبادرة الجديدة المعبّرة التي أطلقها في أصعب الظروف، المبادرة التي تجسدت في إعلان قرار يقضي بتغطية تكلفة أقساط المدارس الرسمية لكل تلاميذ لبنان. هي مبادرة نحو كل بيت وعائلة في لبنان من أقصاه إلى أقصاه، لا تميز بين فريق وطائفة وحزب ومذهب وتيار. مبادرة أبوية لاحتضان طلاب لبنان وإبقاء مدارسهم مفتوحة وإبقاء الأمل أمامهم مفتوحاً وحق التعليم لهم قائماً. وقد جاءت لتبعث المزيد من الأمل، إذ في الظروف الطبيعية في مثل هذا الوقت من كل عام تظهر أزمة تغطية الأقساط المدرسية لكثير من اللبنانيين بسبب الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الخانقة، فكيف الحال إذاً في ظروف كارثية كالتي نعيش؟ وفي السياق ذاته، فإن تجربة الحرب على لبنان حققت إنجازاً عربياً يتمثل بهذا الإجماع العربي على كل الخطوات منذ انعقاد اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت وتشكيل الوفد العربي للذهاب إلى نيويورك وكان له دور كبير في تعديل مشاريع القرارات الدولية، والتي كانت مطروحة في السابق والوصول إلى صيغة القرار 1701. عاد مجلس الوزراء إلى الاجتماع. التوافق واضح رغم الجراح التي خلفتها بعض التصريحات السياسية التي صدرت واتهمت قادة كباراً بأنصاف الرجال والمقالات والتحليلات التي تسرب من هنا وهناك للإساءة إلى المملكة العربية السعودية ومصر وغيرهما من الدول العربية وتؤثر على تضامنها. رغم ذلك، وبسبب الاستيعاب الكبير للقيادة السعودية والقيادة المصرية، لكل هذه المواقف، وإبقاء الحرص قائماً على التضامن العربي ووحدة الموقف، يمكن التطلع إلى مزيد من التقدم في هذا الاتجاه. فإذا كانت الحرب على لبنان توقفت الآن في وجهها العسكري الحربي، فإن حروباً أخرى لا تزال تشن عليه ولابد من حمايته. وفي الوقت نفسه لا ننسى فلسطين التي كانت تحاصر وتقصف مؤسساتها وبيوتها ويعتقل قادتها ورموزها ومسؤولوها الشرعيون المنتخبون ديمقراطياً، ولا تزال تتعرض لكل هذه الممارسات بما يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة. وفي كل الاجتماعات كان تأكيد على مسؤولية إسرائيل في نسف عملية السلام وعلى العودة إلى المبادرة العربية للسلام، التي أقرت في بيروت وحملت اسم مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز. والمملكة العربية السعودية لم تتخلَّ يوماً عن المطالبة بالالتزام بها ورفع الصوت في وجه المتطرفين الأميركيين والتحذير من سياساتهم وانحيازهم الأعمى لإسرائيل، كما كان ولا يزال موقفها من الصراع العربي- الإسرائيلي ثابتاً لجهة التمسك بالحقوق العربية وخصوصاً الحقوق الفلسطينية. فالمملكة مؤخراً وعندما أقرت المساعدات للبنان في ظل الحرب عليه، قدمت مساعدات كبيرة للشعب الفلسطيني ودعماً مالياً كبيراً يضاف إلى ما قدمته سابقاً وخصوصاً لحكومة "حماس" منذ قيامها للتأكيد على أنها تخدم خيارات الشعب الفلسطيني ووقفت إلى جانبه في معزل عن الحسابات الداخلية الفلسطينية. فالقضية هي الأساس. اللافت في هذا الأمر، أن إسرائيل عبرت في الفترة الأخيرة عن خشية من تحريك العرب لعملية السلام دولياً وعلى أساس مبادرتهم المذكورة. نعم، زار مسؤولون إسرائيليون أميركا، وأبدوا مخاوفهم أمام عدد من مسؤولي إدارة بوش، وعقدوا لقاءات علنية حذروا فيها من "تدويل" السلام في المنطقة. ماذا يعني ذلك؟ الخوف الإسرائيلي من سقوط محاولاتهم ونجاحاتهم في التفرد بالساحة الفلسطينية، واتخاذ الإجراءات التي يرونها مناسبة لهم بعد إقصاء الأوروبيين ثم اللجنة الرباعية، وحتى أميركا التي سلمت إدارتها لهم بـ"حق الدفاع عن النفس"! فلا أحد يحاسبها، ما دامت أميركا تحميها بحق "الفيتو" في مجلس الأمن وتمدها بالمال والسلاح وكل أشكال الدعم. نعم إسرائيل تخاف اليوم الموقف العربي، رغم كل التباينات والخلافات. وتخاف المبادرة العربية والعودة إليها. اليوم نحن أمام فرصة جديدة. موقف لبنان والدعم العربي له أفشل إسرائيل. فشل إسرائيل هز صورتها وكيانها. وعاد الجميع إلى الحديث عن الحل السياسي الذي يضمن الأمن والاستقرار، والذي يُبنى على قرارات الشرعية الدولية. فلنبقِ على تماسكنا اللبناني، ولنعزز الموقف العربي على قاعدة من الحكمة والعقلانية بعيداً عن المزايدات والديماغوجيا في مقاربة المسائل خصوصاً من الذين لا يفعلون شيئاً سوى إطلاق التصريحات والإشادة بالمقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين، ويبتعدون عن هذه الخيارات لاستعادة حقوقهم! ومن جديد، شكراً للمملكة العربية السعودية وقائدها الفارس خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ولكل الدول الشقيقة والصديقة التي وقفت إلى جانب لبنان وتقف اليوم إلى جانب فلسطين أيضاً. لأن قضية فلسطين تبقى القضية المركزية في الصراع العربي- الإسرائيلي.