في كندا التي أخذت أنا جنسيتها بحمد الله تعالى، توجد في الأمة ألف نحلة وشيعة وفرقة وملة وعقيدة، فلا يكفر أحد الآخر، ولا يذبح إنسان آخر على الهوية، كما يحدث في العراق هذه الأيام. فقد نقل "جيفري فلايشمان" مراسل صحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، أن حصيلة ضحايا العنف الطائفي بلغت في شهر يوليو 2006 وحده، ما يقارب الـ3500 قتيل، وهو أعلى معدل للضحايا منذ غزو العراق في عام 2003. وفي مشرحة بغداد لوحدها رقدت 1850 جثة في شهر واحد، تشتكي إلى الله حماقة الإنسان، وقلة عقله، وضيق أفقه، وتعصبه المجنون. وما مرت به المنطقة العربية في شهر أغسطس من عام 2006 مرت به فرنسا في نفس الشهر قبل 434 عاماً، في مذبحة القديس "بارتولوميوس"، عندما عُلِّمت بيوت "الهوجنوت" سراً، وأحكم إغلاق باريس، وقرعت أجراس الكنائس في الثالثة صباحاً من يوم 24 أغسطس عام 1572، وكان الشعار: اقتلوهم جميعاً! وينقل المؤرخ "ديورانت" أنها كانت فرصة لتصفية الحسابات، فيقتل أي إنسان على الشبهة، أنه من "الهوجنوت"، بمن فيهم من يريد التخلص من زوجة بغيضة، أو جار غني، أو فيلسوف مفكر، كما حدث بذبح المفكر "راموس": "وجر الهوجنوت وأبناؤهم إلى الشوارع، وذبحوا ذبح الأنعام، وانتزع الأجنة من بطون الأمهات القتيلات وهشموا، وما لبثت الجثث أن تناثرت على أرصفة الشوارع، وأخذ الصبية يلعبون فوقها، ودخل حرس الملك السويسري المعمعة وراحوا يذبحون في غير تمييز للذة الذبح الخالصة"! وحدث أن نبتت شجيرات الشوك البري في يوم 25 أغسطس، في غير أوانها في مقبرة للأطفال، فقرعت أجراس الكنائس في باريس احتفالاً بالمعجزة، فهلل الغوغاء والدهماء و"الحرافيش" و"الزعران" للخبر، وقالوا إنها دعوة للذبح مجدداً، وهكذا عادوا للذبح مرة أخرى. وحصل هذا في مناطق متعددة من كل فرنسا، في ليون وأورليان وديجون وتور وبورج وأنجيه وروان وتولوز فبلغت أكثر من ثلاثين ألف ضحية في تلك الأيام، ما يقابل مليوناً من الأنام هذه الأيام. وحين وصلت الأخبار إلى روما، هلل القوم، ومنحوا البركات والليرات لمن أوصل البشارة، وأضيئت روما كلها بالأنوار، وأطلقت المدفعية ابتهاجاً من قلعة "سانت أنجلو"، وقرعت الأجراس في ابتهاج، وحضر البابا جريجوري الثالث عشر وكرادلته قداساً مهيباً احتفالاً بالنصر المبين على الملاحدة، شكراً لله على هذا (الرضى الرائع الذي أبداه الرب للشعب المسيحي)، وأنقذ فرنسا والبابوية من خطر عظيم، وأمر البابا بضرب ميدالية ذهبية خاصة تذكاراً لهزيمة "الهوجنوت" وذبحهم، وأوعز برسم صورة في الصالة الملكية في الفاتيكان، وتحتها البابا يوافق على قتل كوليني؟ وكان الأخير أهم زعماء "الهوجنوت". ولم تكن فرنسا الوحيدة التي خاضت الحروب الأهلية من عام 1562 حتى 1594، فقد شربت ألمانيا من نفس الكأس بين عامي 1618 و1648 الذي ختم بصلح ويستفاليا، ومعه زهقت روح 6,5 مليون نسمة، من أصل 20 مليوناً من الأنام، مما حدا بالكنيسة لإصدار مرسوم "نورمبرغ" الشهير، والذي فعلته مرة واحدة في تاريخها، بإباحة تعدد الزوجات، استناداً على العهد القديم، أن سليمان تزوج 899 من الحرائر، وتكررت الحرب الأهلية في بريطانيا بين عامي 1642 و1648 وطارت رؤوس ملوك فيها. ولم تنجُ أميركا ولا أسبانيا ولا تركيا ولا اليونان ولا روسيا من الحروب الأهلية. وهو قدر ثقافي وليس إعادة عابثة لقوانين الطبيعة الجامدة، ولا مذنباً يصدم الأرض على حين غفلة؛ بل هو إفلاس أخلاقي، ووباء فكري، وحداته المرضية من مكروبات الأفكار، التي تروجها بعض الرؤوس الدينية، بما تلبس من عمائم وطواقي وطرابيش وطيلسانات ولفائف، وأفكار يعجز عن ترويجها الشيطان الرجيم.