في يوليو الماضي تعرضت كوريا الشمالية لأكبر كارثة طبيعية، فقد أصابت الانهيارات والانزلاقات الطينية الهائلة جراء الفيضانات عدداً لا يستهان به من البنايات والشقق السكنية للكوريين الشماليين. وجرفت الأمطار والسيول الكثير من بيوت وأكواخ الفلاحين في المناطق الريفية، دون أن تترك أي أثر لها حيث كانت قبل الفيضان. ليس ذلك فحسب، بل تركت الكارثة نفسها الكثير من المباني الضخمة العملاقة خالية تماماً إلا من الأعمدة والركائز التي تقف عليها، مصدر هذه المعلومات والتوصيفات الواردة هنا عن الكارثة هي منظمة "Good Friends" وهي منظمة خيرية بوذية دأبت على نشر التقارير الإخبارية المنتظمة عن الكارثة منذ بداية هطول الأمطار. وقدرت هذه المنظمة- التي يقع مقرها في العاصمة الكورية الجنوبية سيول- عدد ضحايا الكارثة في الجارة الشمالية بنحو 45700 قتيل، ما يجعلها الكارثة الطبيعية الأكبر في تاريخ الجارة الشمالية على الاطلاق. غير أن الغموض لا يزال يحيط بما حدث فعلاً، بسبب الطبيعة السرية المتحفظة للنظام الحاكم في بيونج يانج، وكان هذا النظام قد أقر في شهر يوليو المنصرم بحقيقة وجدية الخطر الذي تسببه الفيضانات وبموجب ذلك الاقرار كانت قد اضطرت لالغاء كرنفالات جماهيرية استعراضية واسعة كان مقرراً إقامتها احتفالاً بالذكرى السنوية لتولي الزعيم كيم جونغ إيل مقاليد الحكم هناك. غير أن النظام نفسه أطبق شفتيه ولم ينبس حتى هذه اللحظة بكلمة واحدة عن حجم الكارثة التي ضربت البلاد ومداها وتأثيراتها الضارة بين المواطنين، بما في ذلك صمته وتكتمه على عدد القتلى والضحايا. ولعل أقرب إحصائية لحقيقة عدد القتلى، ما نشرته صحيفة موالية لبيونج يانج تصدر في اليابان، مشيرة فيه إلى نحو 249 قتيلاً فقط. ومهما يكن فإن التداعيات السياسية لهذه الكارثة، لا تقل أهمية ولا تأثيراً عن بعدها الإنساني بأية حال. ذلك أنها حدثت في الخامس عشر والسادس عشر من يوليو المنصرم، أي بعد عشرة أيام فحسب من اختبار بيونج يانج لعدد من صواريخها البعيدة المدى في ساحلها الشرقي. وما أن أعلنت إدارة بوش حصولها على وعد من حكومة سيول بقطع المساعدات الانسانية المقدمة من جانبها للجارة الشمالية بيونج يانج جراء تلك التجارب الصاروخية، حتى حلت الكارثة، ما دفع حكومة سيول إلى الحنث بوعدها والتراجع عنه. وعليه فقد أعلنت سيول في العشرين من أغسطس المنصرم عن تقديمها حزمة مساعدات لكوريا الشمالية، تبلغ قيمتها نحو 230 مليون دولار، تمثل شحنات الأرز والبطانيات والأغطية والاسمنت وآليات الحفر. وعلى حد تعليق شين جو- هايون المحلل بنشرة (E) الإخبارية اليومية التي تصدر في العاصمة سيول، فقد حلت هذه الكارثة بكوريا الشمالية في وقت يتناسب تماماً مع رغبة حكومة كوريا الجنوبية في تعزيز مساعداتها لجارتها بيونج يانج. لكن ومع تدفق هذه المساعدات في المدن والأرياف الكورية الشمالية، يقول عمال الاغاثة وموظفوها إنهم يعملون في منطقة داكنة مظلمة فعلاً ما أن يأتي الأمر على ذكر الفيضانات هناك. ذلك ما أكده يانج- شانج سيوك الناطق الرسمي باسم وزارة توحيد الكوريتين، المعنية بالمسائل المتعلقة بكوريا الشمالية في سيول، بقوله "للأسف فنحن لا نزال نفتقر إلى أي معلومات تفصيلية عما حدث" غير أننا نعلم من خلال ما شاهدنا من صور فضائية للكارثة أنها كانت كبيرة ومروعة ومع ذلك فإن حكومة بيونج يانج لم تزودنا بأية معلومات عنها، إلى ذلك قال "ألستير هينلي" مدير مكتب الاتحاد الدولي لمنظمتي الصليب والهلال الأحمر في بكين، إن سلطات بيونج يانج سمحت لعمال الإغاثة بزيارة مواقع وآثار دمار الفيضانات في العاصمة وضواحيها بعد مضي بضعة أيام من هطول الأمطار وحدوث الفيضانات. لكنه أوضح أن ذلك السماح لم يشمل سوى عمال الاغاثة الكوريين الشماليين فحسب في كلتا المنظمتين. غير أن "هينلي" أكد شكوك في الاحصائيات التي أوردتها منظمة "Good Friends" وهي التي ذهبت إلى تقدير عدد قتلى الفيضانات بما يصل إلى نحو 50 ألف قتيل. ومن رأيه أن هذا الرقم، سيفوق إجمالي عدد الضحايا الصينيين كلهم، حيث شهدت الصين وقوع ثمانية إعصارات متتالية خلال الصيف الحالي، في مناطق أكبر وأوسع مما شملتها الفيضانات الكورية الشمالية وقد وافقه هذا الرأي دبلوماسي غربي متابع للتقارير والاحصاءات المنشورة عن ضحايا الكارثة. وحسب "هينلي" هناك عدد مهول من القتلى، فإنه ما كان له أن يمر دون مساءلة ومحاسبة، حتى وإن حدث ذلك في "مملكة الظلام" نفسها. ومن جانبها لم تكشف المنظمة الغوثية المنسوبة إليها تلك الاحصائيات المضخمة عن ضحايا الكارثة- هوية المصادر التي اشتقت منها معلوماتها، إلا أنها تعرف بأن لها علاقات وطيدة داخل كوريا الشمالية وفي أوساط الجالية الكورية الشمالية المهاجرة المقيمة في الشريط الحدودي للصين. ويحسب لمسؤولي المنظمة نفسها تحذيرهم منذ تسعينيات القرن الماضي من احتمال وقوع هذه الكوارث. ذلك أن المنظمة قد أشارت منذ ذلك الوقت إلى المخاطر الكامنة وراء ممارسات الزراعة وقطع حطب الوقود الجائر في المناطق الجبلية الشديدة الانحدار في كوريا الشمالية. ونتيجة لتلك الممارسات، فقد حدث انجراف حاد للتربة ولم يبق لها ما يساعدها على تماسك ذراتها، مما مهد الطريق بدوره لاكتساح الفيضانات للمسطحات والمساحات السكنية سواء كانت في المدن أو القرى. ولهذا فإن من رأي "إريكا كانج"- وهي مسؤولة بمنظمة "Good Friends" إن الدمار البيئي الذي أعقب كارثة المجاعة التي ضربت كوريا الشمالية، يعد عاملاً رئيسياً من العوامل المسببة لكارثة الفيضانات الأخيرة هذه. ومهما يكن من أمر الخلاف وتضارب الاحصائيات حول عدد الضحايا، فإن ما يتفق عليه عمال وموظفو الاغاثة الناشطون الآن في كوريا الشمالية، هو أن الكارثة الأخيرة هذه ستفرض تحديات كبيرة جديدة على دولة بدأت بالكاد توفير قوت الكفاف لمواطنيها بفضل المساعدات الإنسانية التي ظلت تعتمد عليها منذ بضع سنوات. فما بالك بكارثة جديدة وكبيرة بكل هذا الحجم؟! باربرا دميك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسلة صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" في سيول ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"