أنا لا أعرف عنك شيئاً... ولكن في حين أن أحداث السنوات الخمس الماضية لم تغير من أنماط حياتي اليومية، إلا أنها غيرت بالتأكيد من الطريقة التي أرى بها العالم. لقد كنت معتاداً من قبل على رؤية العالم في شكل فضاء ممتد من التلال المتموجة تعيش فيه أمم وقبائل ومجتمعات شتى، بيد أن المنحدرات التي كانت تربط بين هذه الجماعات في الفضاء كانت متدرجة الانحدار ويسهل الحركة فوقها. وكان الشيء الظاهر في ذلك الوقت أنه من السهل نسبياً الانتقال من مجتمع إلى مجتمع، وفهم الآخرين والتواصل معهم. وبدت العولمة في ذلك الفضاء وكأنها هي التي تحرك الأحداث، وتقف وراء اندماج الأسواق، والاتصالات، والناس. لقد بدت وكأنها تقوم على نحو غير منظم بخلق أفراد معولمين يضعون قدما في ثقافة معينة ويضعون الأخرى في ثقافة أخرى يتعرضون فيها لطوفان من الأفلام، والموسيقى والمنتجات، والأفكار التي يتشارك فيها الجميع. لقد قضيت الجزء الأعظم من عقد التسعينيات (العقد الأكثر خداعاً وتضليلاً) في الخارج: في أوروبا والاتحاد السوفييتي السابق والشرق الأوسط. في تلك الأيام بدا لي أن الناس كلهم يريدون نفس الأشياء: أن يعيشوا في مجتمعات طبيعية وأن يكونوا أحراراً، وأن يوفروا لأبنائهم حياة أفضل. ما يتبين الآن هو أن تلك النظرة كانت مغالية في تبسيطها للطبيعة الإنسانية. صحيح أن الناس في كل مكان يريدون إرضاء رغباتهم، ولكنهم يحتاجون أيضاً إلى منظومات أخلاقية تعمل على كبح جماح رغباتهم وتحدد الطريقة التي تتبلور بها. وصحيح أيضاً أن الناس في كل مكان يحبون أطفالهم، ولكنهم يحتاجون أيضا إلى الاحترام واعتراف الآخرين بهم، وهو ما يجعلهم على استعداد للتضحية بحياتهم بل وبحياة أطفالهم إذا لزم الأمر في ساحة الصراع من أجل المكانة. وصحيح بعد ذلك أيضاً أن الناس في كل مكان يمقتون القهر ولكنهم يحتاجون في نفس الوقت إلى الهوية- والبشر كما هو معروف يبنون هويتهم من خلال كراهيتهم الجماعية للمجموعات التي لا تمثل ما هم عليه. وكل هذه المكونات الأخرى للطبيعة الإنسانية تدفع الناس إلى أن يكونوا قبليين. فالناس يقومون بتكوين مجموعات لتحقيق حاجتهم إلى المكانة، والنظام الأخلاقي والهوية. والفوارق بين هذه الجماعات يمكن أن تكون شاسعة وغير قابلة للتسوية. والصورة المنطبعة في ذهني عن فضاء البشرية ليس أنه فضاء يتكون من سلسلة من التلال المتموجة، ولكن فضاء يمتلئ بالوهاد، والشقوق، والأجراف المدببة، والغابات المظلمة، وتبدو القفار الفاصلة بين المجموعات فيه قاحلة وخطرة. والناس الذين يعيشون في المجتمعات ذات السلطة الموحدة أو الواحدة- كما هو الحال بالنسبة للمجتمعات الإسلامية، يختلفون في الواقع عن الناس الذين يعيشون في مجتمعات تقوم على مبدأ تقسيم السلطات. والناس في مجتمعات الشرف– حيث يقوم الأخ بقتل أخته لأنها تعرضت للاغتصاب- يختلفون عن الناس الذين يعيشون في مجتمعات يتم الحكم فيها على الأشخاص بناء على نواياهم. والناس الذين يعيشون في مجتمعات يهيمن فيها الماضي على الحاضر، يختلفون عن هؤلاء الذين يعيشون في مجتمعات يهيمن فيها المستقبل على الحاضر. لقد نظر "صمويل هنتنجتون" ذات مرة إلى الفوارق الشاسعة بين المجموعات وخرج بنظرية مؤداها أن البشرية تنقسم إلى حضارات مختلفة. وهذه النظرية قريبة من الحقيقة ولكنها ليست صحيحة تماماً. فالانقسامات القائمة في عالم اليوم ليست دائمة، فما نراه اليوم هو أن المجموعات المختلفة يتم تشكيلها بشكل دائم ثم يعاد مراجعة هذا التشكيل من خلال عملية من التدمير الشومبيتري Schumpeterian الخلاق (شومبيتر هو اقتصادي نمساوي مرموق والأسلوب الشومبيتري يقوم على الاستفادة الخلاقة من عناصر الإنتاج من خلال إحلال نظام إنتاج بنظام إنتاج آخر). ومتعهدو الأعمال في مجال التقنية الفائقة Hi-Tech بالأمس يعدون من الهواة إذا ما قورنوا بمتعهدي الأعمال في المجال الاجتماعي اليوم. لكي ندرك ذلك يكفي أن نعرف أن المتعهدين الإسلاميين اليوم قاموا وبسرعة بتأسيس حركة تعد من أكثر حركات العالم حيوية وتدميرا وذلك من خلال المزج بين التعاليم القديمة، والتقاليد المخترعة، والنقاء المتخيل، وتضفير ذلك كله في تقنيات جديدة. وللتدليل على صحة ذلك يكفي أن نعرف أن أهم خمسة رجال في الشرق الأوسط في الوقت الراهن- حسب استطلاع رأي تم إجراؤه مؤخراً- هم: زعماء "حزب الله"، وإيران، و"حماس"، و"القاعدة" و"الإخوان المسلمين". أما غزو شركة مايكروسوفت للسوق فلا يقارن بذلك. إن المحرك الأساسي للأحداث في عالم اليوم ليس العولمة بمفردها وإنما أيضاً الاندماجات التي تحدث بين الاقتصادات والشعوب، والتنافس بين الثقافات حول سلطة المقدس أي السلطة المختصة بتحديد ما هو الخير وما هو الشر، وحقيقة أن الدول المهيمنة على غيرها مثل إيران والولايات المتحدة أصبحت ترى نفسها ليس فقط كدول وإنما كحركات أخلاقية أيضاً. بعد الحادي عشر من سبتمبر لم تحقق الولايات المتحدة نجاحاً يذكر في التأثير على المجموعات البعيدة عنها. لقد دعم الأميركيون إدارة ما بعد الحرب في العراق لأنهم افترضوا أنهم يقومون بتحرير أمة تشبه إلى حد ما أمتهم. مع ذلك فإنني لا أستطيع أن أظهر بمظهر من يقوم بشجب المجموعة التي أنتمي إليها وهي هنا أميركا. لو فعلت ذلك فسيبدو الأمر وكأنه انتحار ثقافي يتم بموجبه كبت الحقائق الجوهرية في مجتمعي وهي أن الخالق قد أنعم على كل البشر بحقوق غير قابلة للتنازل عنها وأن الديمقراطية هي أكثر أشكال الحكم عدالة وفعالية. إن الدرس القاسي للسنوات الخمس الماضية هو أننا نعيش في عالم غير مستوى السطح مليء بمجموعات متنافسة ومختلفة عن بعضها اختلافاً شديداً يجعل من عملية الترويج للديمقراطية عملية أكثر صعوبة ولكنه يجعلها في نفس الوقت أكثر ضرورة. إن العادات الديمقراطية هي فقط القادرة على الحيلولة دون تحول الصدام الحتمي بين القبائل إلى حرب من حروب الإفناء النووي. ديفيد بروكس ــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"