يتفق أغلب المراقبين على أن الحرب الإسرائيلية- اللبنانية لم تحسم بالنصر أو الهزيمة الواضحة, وأن ما بعد الحرب أكثر أهمية في حسم نتائجها. ولكنهم أغرقوا في إجراء حسابات النصر والهزيمة من داخل الساحة اللبنانية وحدها. وتعد هذه المقاربة بذاتها مغالطة منطقية كبيرة. فلم يكن المقصود بالحرب الإجرامية الإسرائيلية ضد لبنان تصفية "حزب الله" أو إضعافه, أو إثارة الانقسامات داخل لبنان, وحده. بل إن الحروب والبدائل الأخرى للحروب لم تعد تحسب على صعيد أي بلد بعينه. فما يهم الادارة الأميركية ليس بلداً بعينه أو بذاته وإنما الساحة العربية والشرق أوسطية ككل. وهي صرحت بذلك عشرات المرات, وتعني الشعارات التي أطلقت في سياق أو بعد الحرب مباشرة وخاصة شعار "الشرق الأوسط الكبير" أن الانتصار والهزيمة يحسبان على المستوى الإقليمي والإستراتيجي وليس على أي مستوى آخر. وفي كل حالة على حدة لم تكن أهداف العمليات السياسية والعسكرية محصورة بنطاقها الجغرافي الوطني. فغزو العراق تم تبريره بتحويل العراق إلى معرض للديمقراطية التي توقعوا أن تنتقل إلى العالم العربي كله, والحرب ضد لبنان صورت وكأنها القابلة التي ستولد "الشرق الأوسط الكبير". ومن هنا أيضاً نستطيع أن نفهم اهتمام الادارة الأميركية الكبير بدول ليس فيها مصالح أميركية كبيرة أو مهمة, وهو ما يظهر في أصفى صوره في السودان, التي لم تكن أبداً موضع اهتمام أي إدارة أميركية سابقة. ومن المرجح أن الادارة الأميركية لن ترسل قوات مقاتلة إلى دارفور أو احتلال السودان كما يقول بعض الأخوة السودانيين, بل ستكتفي بحث دول أخرى على إرسال قوات, بقصد اعتقال بعض كبار القادة السودانيين, قد يكون من بينهم الرئيس نفسه. ومن المحتمل للغاية أن يتم تقديم هؤلاء المسؤولين للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور. وقد يتضمن الهدف تمزيق السودان إلى دويلات دون الإعلان عن ذلك أو التصريح به. وبذلك لا يتم فقط تمزيق بلد عربي كالسودان, بل يتم توجيه رسالة عامة للعرب أجمعين, بأنهم ليسوا بعيدين عن الذراع الأميركية الطويلة. ولكن مثل هذه الحسابات ستنطوي أيضاً على خطوة مهمة في تطوير خطط ضمان الانتصار حتى فيما يتعلق بالحرب ضد لبنان. فأحد أبرز أبعاد حسابات النصر والهزيمة من الناحية السياسية في المنطقة ككل يتعلق بالحصول على المنصة الأخلاقية الأعلى, من خلال تعريف منْ ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية للعدالة الدولية. العرب مع غيرهم من المنظمات الحقوقية الدولية يقولون بأن الزعماء الإسرائيليين متورطون تماماً في ارتكاب جرائم حرب, بينما تشير الإدارة الأميركية وإسرائيل لمسؤولية "حزب الله" عن الحرب اللبنانية ويهددان معا بملاحقة قادته. فإن لم يكن من الممكن عقد محاكمة ولو لواحد من قادة "حزب الله", فإن محاكمة مسؤولين سودانيين على جرائم حرب في دارفور يفي بالغرض من وجهة النظر الأميركية والإسرائيلية. إذ يحقق هذا الاجراء جوهر ما هو مطلوب، وهو إدانة العرب ثقافياً وتصويرهم كجماعة ثقافية ودينية متوحشة, بما "يثبت" شرعية الحروب التي تشنها هذه الادارة- مع إسرائيل- على العرب والمسلمين. يظهر هذا المثل الافتراضي الترابط العميق بين أهداف العمليات السياسية والعسكرية الأميركية والإسرائيلية في المنطقة العربية وفي منطقة الشرق الأوسط, كما يظهر أيضاً طبيعة الصراع حول جمع عوامل النصر والهزيمة بعد نهاية العمليات العسكرية في لبنان. ومن الواضح أن الادارة الأميركية وإسرائيل كانا أسرع كثيراً في الحركة لضمان جمع عوامل النصر والهزيمة هذه لحسم النتائج السياسية للحرب في لبنان, وتحقيق نفس الهدف في بلاد أخرى وحول ملفات أو موضوعات أخرى. وشملت هذه الحركة قرار مجلس الأمن فيما يتعلق بدارفور, ورفض العرض الإيرانى فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل, وإثارة قضية تهريب الأسلحة من سوريا إلى "حزب الله". وإذا كانت جميع هذه العوامل أقل من أن تحسم الصراع الراهن في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط, فإنه يتعين استخدام أكثر الأسلحة والعوامل نجاحاً على الاطلاق في ايقاع الهزيمة بالعرب والمسلمين وهو انقساماتهم الداخلية وبالذات على المستويين الطائفي والقومي. لقد نجح الأميركيون في توظيف الطائفية في العراق بصورة فعالة للغاية, وهم مسرورون أشد السرور لأن "المقاومة" تركت قوات الاحتلال وأخذت تركز بصورة شبه أحادية على المجازر ضد الشيعة, كما تركت الميليشيات الشيعية في العراق قضية بناء دولة ديمقراطية وصارت تركز بصورة شبه أحادية على ارتكاب مجازر ضد السُنة, وإذا بالأخوة وأصحاب الدين والوطن الواحد يقتلون بعضا بعضهم, فيما يشبه جنون الإبادة, تاركين قضاياهم ومصالحهم الحقيقية. وخلال الأسابيع والشهور القليلة المقبلة يرجح أن نشهد توظيفاً أوسع بكثير لقنبلة الطائفية والقنابل الانشطارية الأخرى على اتساع العالم العربي والاسلامي. وبالفعل, يمتلأ الفضاء الاليكتروني بصيحات الشجار الطائفي بصورة مثيرة للفزع. وحتى في بلد عربي مثل مصر حيث لا توجد انقسامات طائفية, بل وحيث تعيش ثقافة دينية تجمع بحساسية وذكاء بين الانتماء السُني وبعض القيم الشيعية, يثير بعض الناس القضية باسم الاختراق الشيعي لمصر, وهو أمر مذهل بالفعل. فقد ترك كثيرون الخطر الإسرائيلي جانباً وذلك لاصطناع خطر وهمي كلية وتغذية المشاعر الشعبية والتحريض العلنى ضد أخوتهم من المسلمين والعرب الشيعة. ونسمع أصداء هذه السخافات في بلاد عربية إاسلامية كثيرة اخرى, بل نسمعه بين المهاجرين العرب والمسلمين في أوروبا وأميركا الشمالية, وهو ما يدلل على الاهتمام الهائل الذي توليه إسرائيل والادارة الأميركية بإثارة الصراعات المذهبية والطائفية في العالم العربي والإسلامي, وفيما بين العرب والمسلمين في كل مكان. وحيثما لا تكون الطائفية والصراعات المذهبية قالباً رئيسياً للصراع الاجتماعي يتم احياء الصراع القبلي أو الديني أو الإثني بشكل عام. لقد ترك الاستعمار حقولاً هائلة للقنابل الانشطارية والعنقودية ولكن في المجال الديني والقومي والسياسي عامة, وهم يوظفونه الآن بكل وضوح, لحسم النتائج السياسية لحرب لم يتمكنوا من الفوز بها في أرض المعركة, وكان ذلك هو ما يتم بالضبط في سياق الحروب الصليبية منذ نحو عشرة قرون, ثم في مختلف الحروب الاستعمارية التالية. ورغم كل حسن النوايا، فإنه لن يكون من الممكن منع الادارة الأميركية الراهنة والاحتلال الاسرائيلي من تحقيق النجاح من دون تأسيس تحالف من أجل تجديد الأخوة الشيعية- السُنية وتأكيد وحدة الاسلام والعروبة وعلاقات الأخاء والمساواة وترابط المصير بين المنتمين لكل الأديان والقوميات في أرضنا, وفي مواجهة التوظيف الانتهازي والاجرامي للانقسامات المذهبية والقومية. إذا كنا نريد الفوز بالمنصة الأخلاقية الأعلى, وبمعركة الحرية, لا يكفي أبداً أن نرفض إثارة خصومة بين السُنة والشيعة, بل يجب أن نؤسس تحالفا عربياً وإسلامياً عاماً ضد التوظيف الإجرامي لهذه الاجتهادات المذهبية, وأن ننجح في وقف النزيف الطائفي في العراق والمماحكات الطائفية في لبنان والخليج والنزيف القومي والقبلي في السودان, وفي كل بلد عربي آخر, لكى نركز قضيتنا على تحقيق العدالة الدولية الحقة.