كيف تكوَّن المصحف، الذي بين أيدينا الآن، الجامع للقرآن كله بعد أن كان ينزل مفرقاً حسب مقتضى الأحوال لمدة تزيد عن عشرين سنة؟ هذا السؤال العام ينطوي على عدد من الأسئلة الفرعية، منها: كيف كانت تتم عملية نقل القرآن من حالة الوحي الذي ينزل به جبريل على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قلوب الذين كان يقرؤه عليهم، وفاقاً مع قوله تعالى: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (جبريل)، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" (الشعراء 192/195)؟ وبما أنه كان ينزل مفرقاً، وعلى مدى ما يزيد عن عشرين سنة، فكيف كانت تُرتَّب الأجزاء التي تنزل في مناسبة ما، بالنسبة للتي نزلت قبلها؟ كيف ومتى بدأت كتابته؟ كيف تم الانتقال بما نزل منه في مكة إلى المدينة، عند الهجرة إليها؟ متى بدأ جمعه ككل، وكيف تم ترتيبه في مصحف؟ وماذا عما يقال عن الزيادة فيه والنقصان؟ قد تبدو هذه الأسئلة من مجال التاريخ وحده، بمعنى أن الجواب عنها يمكن أن يتم بالطريقة التي تتم بها عملية التأريخ للحوادث التاريخية. لكن بما أن الأمر يتعلق بموضوع يقع على مستويين: مستوى زمني تاريخي، ومستوى لازمني ما ورائي، فإن الأسئلة المذكورة، أو بعضها على الأقل، يطرح نفسه على هذا المستوى الأخير أيضاً. فالسؤال الأول الذي يطرح عملية نقل القرآن، من حالة الوحي الذي كان ينزل به جبريل على قلب النبي، إلى قلوب الذين كان يقرؤه الرسول عليهم، يطرح مسألة الانتقال بالقرآن من مستوى المطلق (=كلام الله) إلى المستوى النسبي (=لسان عربي مبين)! أما السؤال الثاني الذي يطرح مسألة ترتيب الأجزاء التي كانت تنزل في مناسبة ما بالنسبة للتي نزلت قبلها، فيطرح ليس فقط علاقة "السابق باللاحق" على المستوى الزمني، زمن النزول، بل يطرح أيضاً علاقة الطابع الزمني التاريخي، للحادث الذي استوجب نزول جزء من القرآن، مع الطابع اللازمني لهذا الجزء نفسه؟ لقد اصطلح المفسرون وغيرهم من علماء الإسلام على تسمية مثل هذه الحوادث بـ"أسباب النزول"! فكيف نفهم العلاقة بين السبب والمسبب في هذا المجال؟ وسواء احتفظنا بلفظ "السبب" أو وضعنا مكانه لفظ "المناسبة" فجوهر العلاقة يبقى هو هو: علاقة المطلق بالنسبي! وما قلناه بصدد السؤال الأول والثاني يمكن قوله، هو نفسه أو مثله، بالنسبة للأسئلة الأخرى. وبالتالي فمشكل العلاقة بين المطلق والنسبي ستظل تلاحقنا! صحيح أن جميع هذه الأسئلة وما في معناها قد طرحت قديماً، إما من طرف المفسرين أو المتكلمين أو الأصوليين والفقهاء.. الخ! غير أن الآفاق التي طرحوها فيها، وبالتالي الأجوبة التي قدموها، كانت محدودة بحدود معهود زمنهم الفكري والاجتماعي والحضاري العام. وهذا لا يعني أن تلك الأجوبة كانت باطلة أو يكتنفها الخطأ كلها، فصدقها أو عدم صدقها كان محكوماً بذلك المعهود: فما وافقه اعتبر صادقاً، وما خالفه اعتبر غير صادق أو موضوع شك. وبما أن عناصر كثيرة من ذلك المعهود قد تغيرت، خاصة على المستوى العلمي والفكري والاجتماعي، فإنه لابد أن تفقد بعض الأجوبة التي كانت صادقة في المعهود القديم شيئاً –قليلاً أو كثيراً- من مبررات صدقها مع الزمن، وبالتالي فلا تتمتع بنفس الدرجة من الصدق. وإذا نحن أخذنا بعين الاعتبار أن كثيراً من الجوانب التي تتصل بالأسئلة المذكورة قد تم الجواب عنها من خلال "الموروث القديم" السابق على الإسلام، الديني منه كـ"الإسرائيليات" والعلمي والفلسفي (علوم الأوائل)، أدركنا كيف أن إجابات القدماء على الأسئلة التي طرحوها هم أنفسهم تدخل بالنسبة إلينا ضمن ما يقع خارج زماننا واهتماماتنا. ومن هنا تصبح المشكلة مشكلتنا نحن كذلك: كيف نبني لأنفسنا فهماً للقرآن يمكننا من تقديم أجوبة جديدة، على الأسئلة التي يطرحها التعامل معه، بصورة تجعل فهمنا له معاصراً لنا (لمعهودنا) وفي نفس الوقت معاصراً لنفسه بوصفه ينتمي إلى عالم المطلق؟ نحن لا ندعي أننا سنقدم في هذه المقالات حلاً لهذا المشكل. كل ما نأمل فعله هو تقديم رؤية فسيحة تساعد على احتواء مثل هذه المشاكل العويصة ضمن أطر وقوالب منفتحة على بعضها بعضاً في جو من "التعايش السلمي"، بحيث تمكن العقل من التحرر من شرنقة النسيج الذي ينسجه منطق "إما... وإما". نزل القرآن كما قلنا مفرقاً، منجَّماً. وتجمع مصادرنا على أن النبي كان إذا نزلت عليه آية أو أكثر يقرؤها حتى يحفظها عن ظهر قلب، ثم يُقْرِؤها على من حضر من أصحابه فيحفظونها هم أيضاً عن ظهر قلب. وهذا يشهد له قوله تعالى: "لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" (القيامة 16/19)، وأيضاً: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ" (الإسراء 107). نحن هنا إزاء عملية إقراء مزدوجة: جبريل يقرئ الرسول والرسول يقرئ أصحابه. وهؤلاء يقرئون غيرهم. وربما كانت عملية القراءة والإقراء، هذه، وراء تسمية القرآن قرآناً! وقد رأينا في مقال سابق كيف أن هذه التسمية لم تذكر في القرآن إلا بعد مدة. ومن الجدير بالملاحظة أن اسم "القرآن" لم يطلق في القرآن إلا عليه وحده، كما أنه لا يطلق على غيره في الاستعمال اللغوي العام. وبالمثل اختص باسم "القُرَّاء"، في الاصطلاح الإسلامي، قُرّاءُ القرآن المتخصصون في قراءته. وكما شرحنا في مقال آخر سابق فاسم "كتاب" لم يسم به "القرآن" إلا بعد مدة من إطلاق اسم "القرآن" عليه، وبعد إطلاق لفظ "الكتاب"، في القرآن نفسه، على التوراة وعلى اللوح المحفوظ. وكما كان لابد من وجود ما يكفي من التنزيل المقروء ليطلق عليه اسم "القرآن"، كان لابد كذلك من تراكم ما كان يكتب منه بالقدر الذي يكفي ليسمى "كتاباً". وإذا كنا لا ندري بالضبط متى بدأت كتابة القرآن، فإن في بعض الروايات ما يفيد أنه كان يكتب ويقرأ على صحف في السنة الخامسة للنبوة على الأقل، أي نحو سنتين ونصف بعد استئناف نزوله (بعد توقفه لمدة سنتين ونصف بعد أول اتصال لجبريل بالنبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء): ذلك أن بعض الروايات تذكر في قصة إسلام عمر بن الخطاب أنه وجد أخته تقرأ في صحيفة، وفيها سورة طه، عندما ذهب إليها غاضباً لما سمع أنها أسْلمت، وأنه طلب منها الصحيفة فقرأ منها فأعجبه ذلك فأسلم. ومعلوم أن إسلام عمر كان في السنة الخامسة للنبوة. هذا ولم يكن من المفكَّر فيه داخل الفكر الإسلامي -طوال تاريخه المديد- أن النبي كان يتولى بنفسه كتابته، مع أنه كان يعرف القراءة والكتابة كما بيَّنا في مقالات سابقة. والحق أن معرفة الإنسان للكتابة والقراءة لا يلزم عنها أنه يقرأ الكتب ويؤلفها، وقد أكد القرآن ذلك بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: "وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" (العنكبوت-48). وعندما طلب منه خصومه من قريش أن يأتي بآية مادية ملموسة خارقة للعادة كدليل على صدق نبوته أجابهم القرآن: "أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (العنكبوت 50/51). وظاهر الآية يفيد أن القرآن نزل ليُتلى على الناس، كما نزل وحياً، الشيء الذي يُستبعَد معه توسط الكتابة بين تلقيه وحياً وتبليغه للناس. ويمكن للمرء أن يزكي هذا بكون خصوم الدعوة المحمدية قد اتهموا النبي بافترائه القرآن وأنه كان يُملى عليه من طرف بعض أهل الكتاب، ولكنهم لم يتحدثوا عن كونه كان يكتبه. وقريش تعلم أن الشعراء لم يكونوا ينشئون شعرهم كتابة بل يلقونه إلقاء ثم يكتبه عنهم آخرون. ومع أن القصائد المعتبرة كانت تعلق في الكعبة (المعلَّقات) فليس لدينا ما يفيد أن الشعراء كانوا يكتبونها بأنفسهم. إن الاستعانة بكُتَّاب مهنتهم الكتابة كانت عملية جارية. نعم هناك ما يعرف بـ"الحوليات" وهي القصائد التي قيل إن أصحابها كانوا يقضون في إعدادها ومراجعتها نحو حولٍ من الزمن (سنة). ولكن هذا لا يفيد بالضرورة أنهم كانوا يكتبونها، فالإعداد والمراجعة يمكن أن يتما بدون كتابة، إذ كان الدور الأساسي للذاكرة والحفظ.