بعد نتائج الانتخابات التي طفَتْ إلى السطح بحركات "الإسلام السياسي" كـ"حماس" في فلسطين و"الإخوان" في مصر وفي دول أخرى، قرر الأميركيون سحب "مطالباتهم" المزعومة لدول المنطقة بـ"الدمقرطة" و"الإصلاح".. إلخ. نعم سحبوها، إن لم يكن علنياً فبكل تأكيد عملياً، إذ ابتلعوا ألسنتهم وبكل بهدوء معوِّلين على ظاهرة "ضعف الذاكرة" لدى الآخرين، وشيئاً فشيئاً لاذوا بالصمت، وسيبقون كذلك حتى يجدوا طريقة أخرى أضمن لمصالحهم. من هنا تنتفي صفة "الضغط الخارجي" عن أية دولة من دول المنطقة تبادر الآن من تلقاء نفسها باتخاذ خطوات في مسار الإصلاح، لأن ذلك بات اختياراً خاصاً وذاتياً، بشكل لا جدال فيه. وهذه هي حالة الإمارات تحديداً، حسب رأيي الخاص. فالانتخابات التي أعلن أنها قد تجرى آخر هذه السنة في الدولة ليست استجابة لأي ضغط خارجي من أي كان، كما أنها أيضاً ليست نتيجة أي إلحاح أو مطالبة داخلية، من أي شكل أيضاً. ولذا جاءت هذه المبادرة من صانع القرار إدراكاً ووعياً منه بالمتغيرات الدولية، وبأهمية توفير جميع أسباب النهضة المتوازية التي ترفد الإنجاز الاقتصادي المبهر المتحقق باستفادة إلى أقصى قدر ممكن من العنصر البشري المواطن، بإشراكه في بناء المشروع التنموي، ليتحمل مسؤوليته فيه كاملة، لأن الإنسان هو هدف ووسيلة وغاية أي مجهود تنموي، وهو رأسمال الوطن، في النهاية. غير أن هذه التجربة الانتخابية الوليدة في الإمارات كانت مؤخراً موضوع مناقشات وجدل وسجال وتنظير عبر وسائل إعلامية عديدة وخارجية بالدرجة الأولى، وكانت وسائل الإعلام هذه في أحيان كثيرة تقفز على الواقع، وتخطئ التوصيف، وتزن التجربة برمتها بموازين غير دقيقة، وبالتالي غير موضوعية. ومفهومٌ أن من حق وسائل الإعلام الإقليمية أن تتناول موضوع انتخابات الإمارات المنتظرة. فالإمارات على رغم أنها دولة صغيرة إلا أنها –والحمد لله- إحدى أنجح تجارب العرب التنموية في التاريخ المعاصر، ولذا فمن الطبيعي جداً أن تكون تحت مجهر الإعلام وأن تصوَّب إليها العيون والعدسات، وأن تستقطب كل هذا الاهتمام، وأكثر. لا توجد مشكلة هنا أبداً. لكن غير الطبيعي، وغير الموضوعي، والمشكلة، كل المشكلة، هي في طريقة تناول بعض "زبائن الفضائيات"، و"المثقفين المخضرمين"، الذين راحوا ينظِّرون، ويضربون أخماساً في أسداس، وشيئاً فشيئاً خرجوا بالتجربة برمتها من سياقها الطبيعي والموضوعي، منطلقين من تصورات مسبقة في أذهانهم، تلقوها هم على مقاعد الدراسة منذ دهر تقريباً، عن "الديمقراطية" ومواصفاتها القياسية، إلى آخر ما هنالك، وهاجم آخرون التجربة وهي ما زالت في الأفق، ربما لأنهم لم يأنسوا من الآن ما يوحي بأنها ستكون على مقاس أحلامهم و"طموحاتهم" الشخصية. بعد ذلك، راح هؤلاء وأولئك يلوكون مصطلحات عن التعدد الحزبي، وعن "الديمقراطية" على الطريقة الفنلندية، بل على طريقة أثينا القديمة، في مفارقة بيِّنة لواقع الإمارات واحتياجاته، وللغاية من التجربة ذاتها كذلك. وقبل أن يتمادى هؤلاء أكثر في استدعاء مخزونهم الاستراتيجي من المصطلحات إياها، وقبل أن نسمع المزيد عن المواصفات القياسية للديمقراطية، ليتكرَّموا أولاً بالعلم، إن لم يعلموا حتى الساعة، أن الحدث المرتقب وكما أعلن عنه، هو انتخابات تعزز المشاركة السياسية فقط. وليعلموا أيضاً أن الديمقراطية نفسها، وبكل هذه الهالة الأسطورية التي يحيطونها بها - وبجميع اشتراطاتها من تعددية حزبية، ومعارضة صاخبة وتجاذب سياسي محموم وخلافه مما هو غير وارد في التجربة المطروحة- ليست أبداً غاية في حد ذاتها، وإنما هي مجرد وسيلة تستخدمها المجتمعات للوصول إلى العدالة الاجتماعية. ما يجعل الإمارات في غنىً أصلاً عن الغرق في ترف التنظير و"العصْف الفكري" البيزنطي الذي يجهد البعض نفسه به بعيداً عن الواقع.