توفي عمي "وضيح" آخر أشقاء والدي، عن عمر يناهز الثمانية والتسعين عاماً خلال الصيف الحالي، وكانت هذه الوفاة نقطة تحول كبيرة في حياة أسرتي. ذلك أنه كان الأصغر بين الخمسة أشقاء وشقيقات الذين جاءوا إلى أميركا مطلع القرن العشرين لكي يبدأوا مشوار حياة جديدة فيها. وبرحيله فقد أصبحت أنا وأبناء وبنات عمومتي الجيل الأكبر سناً للعائلة. وبعد انطفاء هذه الشعلة المضيئة، فإنها لمناسبة للوقوف وتأمل قصة الهجرة الأميركية هذه، وشأنها في ذلك شأن الكثير من العائلات المهاجرة، فإن لقصتنا هذه ما يشبه البعد الملحمي، لكونها تجمع ما بين المغامرة والشجاعة والبأس والعزم. وقد بدأت هذه القصة في عام 1910، حين غادر الأخ الأكبر "حبيب" لبنان متجهاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، وهو لم يزل في الرابعة عشرة من عمره. وفي رحلته تلك مع عمه وابن عمه، كان هدفه هو الحصول على عمل وتمهيد الظروف والأجواء كي يلتحق به بقية أفراد العائلة الآخرين وهنا في العالم الجديد. ولما كان وقع الحرب العالمية الأولى على لبنان قاسياً ومؤلماً، فقد قرر جدي "رشيِّد" اصطحاب العائلة وغيرها من العائلات الأخرى من قريتنا إلى المناطق الأكثر أمناً في وادي البقاع. وهناك حلّوا واستقروا وفلحوا الأرض حتى ووجهوا بخطر قوة عسكرية تركية أكبر عدداً وأكثر تقدماً في عام 1916. وما كان لهم إلا أن يصمدوا أمامها ويقاوموها، ففعلوا. وفي تلك المعركة سقط جدي، الذي اعتبره أهالي الوادي بطلاً شعبياً وواروه الثرى في ضريح مهيب أقيم له هناك في وادي البقاع. وبنهاية الحرب أعادت جدتي العائلة مرة أخرى إلى قرية "كفراتي"، حيث بدأت من هناك تخطط للالتحاق بـ"حبيب" في أميركا. ولما كان والدي هو الفرد الثاني الأكبر سناً في العائلة، فقد كان عليه أن يكون المسافر الثاني، بعد "حبيب". وبسبب المصاعب التي واجهها في الحصول على تأشيرة السفر، فقد عثر له على عمل في سفينة متجهة إلى مارسيليا، حيث عمل فيها لمدة ستة أشهر قبل أن يحصل على وظيفة في سفينة أخرى متجهة إلى نيويورك. وما أن وطئت قدماه تراب أميركا في عام 1922 حتى اعتزم البقاء فيها مهاجراً غير شرعي، حتى شمله عفو عام حصل بموجبه على الجنسية الأميركية في ثلاثينيات القرن الماضي. ثم كان أن اجتمع شمل "حبيب" و"يوسف" اللذين خططا لانضمام بقية أفراد العائلة إليهما، وبعد ستة أشهر لحقت بهما جدتي وأولادها الخمسة، ولا نزال نحتفظ إلى اليوم بصورة لاجتماع شملهم في عام 1932. ويا لها من حياة جديدة عظيمة كانت تلك! فمن تحت سقف بيت واحد وعمل استثماري صغير، تمكنت العائلة من مضاعفة عائداتها وتحقيق الازدهار الذي طالما حلمت به. وكان لها أن خرَّجت جيلاً من المهنيين والمستثمرين والموظفين في شتى المجالات والمهن، وفوق ذلك بقيت هذه العائلة موحدة ومتماسكة، وإنها لقصة نجاح أميركي جديرة بالفخر والاعتزاز. واليوم فقد مضى "وضيح"، آخر أفراد ذلك الجيل الأبي، وعلى الرغم من أنه لم يتلقَّ أي تعليم نظامي في يوم من الأيام، فإنه كان يثابر على قراءة صحيفة "نيويورك تايمز" إلى جانب عدد كبير من الصحف العربية يومياً. وكان يثابر كذلك على زيارة لبنان سنوياً، واحتفظ بعلاقات أسرية قوية مع بقية أهلنا هناك، بينما علّمنا جميعاً كيف نحب تراثنا الثقافي ونحترمه. بل الحقيقة إننا تعلمنا الكثير من عمل "وضيح" وإخوانه وإخوته، ومن بين الذي تعلمناه استغلال الفرص والحريات الكبيرة التي أتاحتها لهم أميركا، وبفضلهم عرفنا معنى وقيمة الارتباط والتعلق بالوطن الأم. ومن أفراد ذلك الجيل -جيل الثمانية مهاجرين الشجعان البواسل- تعلمنا جميعاً معنى الانتماء للأسرة والوطن، ومنهم عرفنا أهمية أن نتماسك ونحمي بعضنا بعضاً، وأن نستمسك بأهداب الشرف والفضيلة. لقد كان هؤلاء جيلاً عظيماً بحق، وعلى رغم استثنائية قصتهم فإنها تظل قصة عادية في بعض جوانبها، لكونها تشبه قصة الكثير من العوائل المهاجرة، التي استطاعت أن تحصد الأماني والإنجازات العظام، وتلك هي القصة الأميركية.