على مدى أكثر من عقدين من الزمن ومنطقة الخليج تواجه أزمة أمنية مستمرة مستعصية على الحل، فقد واجهت المنطقة أربع حروب كبرى، بدأت بالحرب العراقية- الإيرانية بين عامي 1981-1988، مروراً بالغزو العراقي للكويت عام 1990، وعمليتي درع وعاصفة الصحراء عام 1991 اللتين أدتا إلى تحرير الكويت، وصولاً إلى غزو العراق عام 2003، وكذلك الحرب الأهلية اليمنية عام 1994، ونذر الحرب الطائفية واحتمالات تقسيم العراق عام 2006، والتوتر الثلاثي "الإيراني-الإسرائيلي-الأميركي" الذي يشير إلى حل عسكري مدمر مؤجل. ومما لاشك فيه أن تغيير النظام في العراق قلص إلى حد كبير التهديد الذي كان يشكله العراق للأمن الإقليمي، في المدى القريب على الأقل، ولكن زوال نظام صدام حسين عزز موقف إيران نظراً لزوال قوة كبيرة كانت تحد من ثقل طهران ونفوذها في المنطقة، فضلاً عن إذكائه روح الطائفية العرقية والدينية داخل العراق نفسه والمنطقة، كما أن نهاية صدام حسين ونظامه لم تؤدِ إلى إنهاء التطرف والعنف والإرهاب، أو تمنع انتشار القدرات العسكرية غير التقليدية المهددة للاستقرار والأمن الإقليمي، بالإضافة إلى عمليات تهريب المخدرات، واستمرار النزاعات الحدودية، والكوارث البيئية، والتحديات السياسية الداخلية التي تؤثر في الاستقرار. كان يمكن اعتبار اتفاقية الدفاع المشترك الخليجي التي صدق عليها المجلس الأعلى لدول مجلس التعاون الخليجي في ديسمبر 2000 الأساس الحقيقي والواقعي لنظام أمني في منطقة الخليج، لما تحمله هذه الاتفاقية من خطوات جدية لتحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة في مواجهة التحديات والتهديدات المتربصة بدولها، ولكن...، وآه من لكن هذه، فهي تحمل عبء كل إخفاق وتراجع حول ما يتفق عليه العرب، حيث لم يتخذ مجلس التعاون الخطوات العملية التي نصت عليها الاتفاقية لوضعها موضع التنفيذ، ولذلك ظلت الفردية سمة التعامل مع التهديدات والعدائيات التي تواجه المنطقة، في ظل الاعتماد الكامل على التحالفات الدفاعية والأمنية مع دول خارجية. لقد تسلمت الولايات المتحدة مسؤولية الأمن في منطقة الخليج بعد رحيل بريطانيا عام 1971، ومن ذلك التاريخ كانت الاستراتيجيات الأميركية في حفظ الأمن بالمنطقة معرضة لمشكلات كثيرة، بدءاً من الاعتماد في السبعينيات على استراتيجية "العمودين المتساندين" إيران والسعودية، ومروراً بالاعتماد على العراق في احتواء إيران الذي انتهى بمفاجأة اجتياح العراق الكويت، وانتهاء بسياسة الاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران التي وضعت المنطقة في حالة توتر مستمر من جراء الضغط الأميركي على دولها لحصار إيران اقتصادياً وتجارياً. ويواجه بوش الصغير الآن مأزقاً استراتيجياً بدا واضحاً قبل هجمات سبتمبر 2001 بوقت طويل، فقد أصبح الوجود العسكري الأميركي سبباً للاستياء السياسي وانتشار التطرف والعنف في المنطقة، وساهمت الولايات المتحدة الأميركية في ذلك من خلال دعمها السياسي والعسكري لإسرائيل على حساب الفلسطينيين والمصالح العربية، وغض طرفها عن طموحات الهيمنة الإيرانية في المنطقة، وهذا الاستياء العام يفرز مشكلات لا تستطيع الاستراتيجية العسكرية الأميركية معالجتها. ومنذ أن أعلنت إدارة بوش الصغير استراتيجيتها "الاستباقية" للأمن القومي، باتت الولايات المتحدة الأميركية تعتمد بصورة متزايدة على سياسة "عسكرية استبدادية" مباشرة وخطيرة تهدد أمن واستقرار المنطقة والعالم، ولا تحقق طموحات دول منطقة الخليج العربي في علاج المشكلات الأمنية المتراكمة. من المعروف أن أي منظومة مستقبلية لأمن الخليج يجب أن تتألف من عنصرين مترابطين. أولهما، أن المنظومة يجب أن تُبنى وفق محور رأسي: أي وجود توازن عسكري قوي بين إيران والعراق ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، بحيث يكون كل طرف من الأطراف الثلاثة راضياً إلى حد ما عن الاستقرار المتحقق. والعنصر الثاني، أن هذه المنظومة يجب أن تُبنى وفق محور أفقي: أي من خلال التشجيع على إرساء إجراءات واضحة لبناء الثقة وحل المشكلات البينية بالطرق السلمية وتخلي إيران عن طموحات الهيمنة وسعيها لتكون قوة إقليمية عظمى في المنطقة، وإيجاد أرضية مشتركة من المصالح الاستراتيجية، كما يجب أن تعالج المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشكل أرضية لتفريخ الاستياء والتطرف. هناك تعقيدات عديدة تواجه تحقيق الأمن الدائم في منطقة الخليج، أهمها أن المنطقة تُدار وفق مبادئ سياسة المعطيات الواقعية، ولكن من دون توافر القدرة على إيجاد التوازن الاستراتيجي والقبول العام بالوضع القائم، ونتيجة لهذا الوضع تظل منطقة الخليج تواجه حالة انعدام الأمن. لقد جاء انحسار المفهوم الواقعي التقليدي في العلاقات الدولية، واندثار مفاهيم تحقيق الربح على حساب خسارة أطراف أخرى في صيانة الأمن القومي للدول، ليخلقا مجالاً أرحب لبناء الأمن التعاوني أو الأمن المشترك. لذا فإن الانكشاف الأمني الاستراتيجي الذي تواجهه منطقة الخليج ينبع أساساً من داخلها، ومن دول كان من الأجدى أن تتحمل نصيبها الأكبر في تحقيق أمنه لأنها دول كبرى جغرافياً وديموجرافياً بدلاً من أن تكون سبباً في هذا الانكشاف الأمني واستمراره حتى الآن، ونعني بهما إيران والعراق. والسؤال المهم هو: ما النموذج الأمثل لإعادة تأهيل كل من إيران والعراق من منظور دول مجلس التعاون الخليجي؟ وما هو نمط النظام السياسي ونظام الحكم الذي يمثل النموذج الأكثر واقعية للعراق ويجعله "الجار" البنّاء والمسالم في نظر دول مجلس التعاون الخليجي؟ وما الخطوات التي يمكن اتخاذها لإقناع إيران بالتخلي عن طموحاتها الفارسية ومغامراتها السياسية والعسكرية التي تضع المنطقة ودولها في مهب ريح الأزمات؟ هذه الأسئلة هي الأسئلة الصحيحة التي كان يجب التفكير فيها والعمل على حلها مباشرة بعد تحرير الكويت قبل ما يقارب عقدين من الزمن. ولو كانت هناك جهود منهجية ومنظمة في هذا الاتجاه في السنوات الست عشرة الماضية، لكان من الممكن تجنب المأزق الأمني الراهن، ولو كان عمرو كوسة قد فهم أهداف ومضمون "مبادرة زايد"، رحمه الله، من أجل تنحي صدام حسين لتجنيب العراق ويلات وكوارث ما حدث، لكان الوضع الأمني في الخليج أفضل الآن، ليس هذا فحسب بل لكانت المحصلة النهائية منسجمة بشكل أكبر مع مصالح دول الخليج العربية. ولكن طوال الفترة الماضية فقدت دول مجلس التعاون الخليجي قدرتها على المبادرة والفعل الجماعي المؤثر بسبب بعض المواقف السلبية والاهتمام بالمصالح الحيوية القُطْرية، وربما يكون الأوان قد فات لتجنب الأعمال العسكرية الدامية التي تجري على أرض العراق، ولكن لم يفت الوقت بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي لكي تشارك مشاركة بنّاءة وفعالة في صياغة مستقبل العراق وبناء منظومة فعالة للأمن الإقليمي. ومن البنود المهمة في الأجندة الإقليمية الراهنة لأمن الخليج وضع استراتيجية فعالة لدعم الأمن والاستقرار في العراق، وعلاج الأزمة النووية الإيرانية وفق محددات وضوابط تضمن الحفاظ على أمن واستقرار منطقة الخليج، وتعيد إيران إلى وضعها الطبيعي داخل منظومة الأمن، وتضمن تخليها عن سياسة فرض الأمر الواقع واحتلالها أرضاً عربية، وخاصة أن إيران تعاني انقسامات داخلية مريرة، وليس هناك بارقة أمل في الأفق لحل المشكلات الاقتصادية والسياسية الداخلية العديدة التي تواجهها. لقد أخفق المنهج التقليدي في حل الصراعات الإقليمية والتوصل إلى حالة من الاستقرار، والأسوأ من ذلك أنه تسبب في تدخل أجنبي غير مرغوب فيه، وأصبح نقطة ضعف تهدد منطقة الخليج، وفي الوقت ذاته خدم المصالح الجيوسياسية والاقتصادية للأطراف المنافسة لدول الخليج العربية. ونظراً لعدم وجود شيء من دون ثمن، فقد كان هناك ثمن لعدم تصرف دول مجلس التعاون الخليجي بفاعلية، ولعدم اتخاذها خطوات جماعية لمواجهة الانكشاف الاستراتيجي الأمني للمنطقة، ولكونها تعتمد أكثر مما ينبغي على أطراف خارجية لمعالجة مشكلاتها الأمنية الإقليمية، والظروف الحالية التي تمر بها منطقة الخليج توضح هذا الثمن الباهظ بجلاء. إن نجاح أو فشل أي منظومة إقليمية للأمن في منطقة الخليج، يعتمد إلى حد كبير على هيكل هذه المنظومة ومدى طموح أهدافها، وكيفية تفاعلها مع الآليات والعلاقات الأمنية الإقليمية الأخرى. إن تعزيز الأمن الإقليمي في هذا الجزء من العالم، لا يستلزم استنساخ منظومة مماثلة للاتحاد الأوروبي أو حلف "الناتو" أو لمجموعة دول أخرى ولكن المطلوب هو تفعيل ما تم الاتفاق عليه وعدم الاقتصار على توقيع الاتفاقيات كواجهة تغطي عدم الاتفاق بين دول مجلس التعاون الخليجي!!!