مع بداية التمرد العراقي في نوفمبر من عام 2003، كنت قد حاولت بصفتي مسؤولة أميركية هناك، أن أتعرف على شتى المجموعات التي يتألف منها التمرد إلى جانب معرفة أسبابه ودوافعه. وما أن التقيت ببعض كبار القادة السُنيين، حتى تبين لي الفارق الكبير بين النظرتين الأميركية والعراقية لأسباب التمرد ودوافعه. وإذا ما أردنا تقديم يد العون في بناء عراق ديمقراطي مستقر، فإن علينا تحليل وفهم المنظور العراقي للتمرد وتضمينه في أي حلول مستقبلية نطرحها، سواء ما تعلق منها بالتمرد، أم بالنزاع الطائفي الناشئ للتو. وفيما يلي نبين أوجه التباين والاختلاف بين النظرتين الأميركية والعراقية إلى التمرد، ثم نتبع ذلك بتصور لما يمكن أن يكون عليه الحال. أولاً: يقول العراقيون: "لقد أسقطت الولايات المتحدة الأميركية صدام حسين، إلا أن جنودها يهينوننا ويسيئون إلينا على نحو ما حدث في سجن أبوغريب". أما من الجانب الأميركي فنسمع "لقد خلصناهم من طاغيتهم الدموي الوحشي، غير أنهم كافأونا على ذلك بمهاجمتنا وقتلنا". ثانياً: لقد عمت الفوضى وأعمال النهب والسلب والإرهاب في شوارع العاصمة بغداد، عقب الإطاحة بصدام حسين. أما النظرة الأميركية، فتفسر ذلك بأنه ردة فعل ليس إلا للحرية التي نعم بها العراقيون للمرة الأولى بعد مضي 35 عاماً من الديكتاتورية والطغيان. ثالثاً: "لقد أخبرونا عن إنفاق مليارات الدولارات على مساعي تحسين ظروفنا المعيشية، إلا أننا لا نزال نتطلع إلى هذا التحسن بعد". وفي المقابل فإننا نسمع الصوت الأميركي يقول محتجاً وساخطاً: "نحن ننفق عليهم مليارات الدولارات من أموالنا بغية بناء بلادهم وتحسين معيشتهم، ولكن أنظر إليهم كم هم جاحدون"! رابعاً: "إذا كانت القوة العسكرية العظمى عالمياً، عاجزة عن تأمين حياتي وحياة جيراني، فإن الذي حدث لم يكن سوى مؤامرة استهدفت تعميم حالة الفوضى من أجل إطالة أمد بقاء القوات الأميركية هنا في العراق". ومن وجهة النظر الأميركية نسمع "إنه يصعب جداً تقصّي موعد وقوع العمليات الانتحارية، فنحن هنا إزاء نوع وحشي من أنواع الحروب لا قبل لنا من الاستعداد العسكري له". خامساً: تعجز القوة العظمى والأغنى على الإطلاق، عن صيانة الشبكة الكهربائية أو حتى توفير المولدات الصغيرة للمواطنين حرصاً على تخفيف معاناتهم اليومية. لكن ومع ذلك أنظر إلى "المنطقة الخضراء"، فهي مضاءة كما لو كانت شجرة أعياد الميلاد. ويرد على هذا الاحتجاج الصوت الأميركي بالقول: "إننا نحاول تبني مشروعات عملية يمكن تنفيذها، مثل إعادة بناء أجزاء من خطوط الأنابيب والشبكة القومية للكهرباء، ولكن المشكلة أن المتمردين لا ينفكون عن تخريبها وتدميرها باستمرار. سادساً: العراق دولة مستقلة ذات سيادة، غير أننا لا نزال نعتقد أن الولايات المتحدة هي التي تمسك بزمام الأمور فيها. ولك أن تنظر كيف استولت السفارة الأميركية في بغداد على قصر صدام حسين الرئاسي. أما الرد الأميركي على هذا فهو: "لقد مضى أكثر من عامين على استرداد العراق لسيادته، ولكنه لم يفعل شيئاً بعد ولماذا كل هذا العجز وانعدام الكفاءة والأهلية بين ساسته؟ سابعاً: إن كل الذي نراه من الوجود العسكري الأميركي هنا، هو قافلات سياراتها ومصفحاتها العسكرية المدججة التي تجوب شوارع العاصمة، وهي لا تفعل شيئاً سوى الاختناقات المرورية الحادة، وإطلاق النيران على كل من يقف في طريقها دون تمييز. وفي المقابل يرد الصوت الأميركي "نحن مستهدفون أينما ذهبنا، وكذلك يستهدف التمرد ويقتل كل عراقي يتعاون معنا". ثامناً: إن الخطأ كله في بروز السياسات الطائفية في البلاد، وما نشأ عنها من نزاعات طائفية مستعرة الآن، إنما يعود إلى أميركا التي نصّبت الأحزاب الدينية في مواقع السلطة إبان إدارة سلطة التحالف المؤقتة للبلاد. ولكن رداً على ذلك يقول الأميركيون: "إننا نحن من يحاول جاهداً الحيلولة دون نشوب الحرب الأهلية، عن طريق مواصلة الضغط من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية، على أن يحظى فيها المسلمون السُنة بأوسع مشاركة ممكنة". تاسعاً وأخيراً: "إنهم لا يكفون عن الحديث المستمر عن الديمقراطية، ولكن دون أن يكلف أحدهم شرح معناها ولا الكيفية التي يمكن أن تنجح بها هنا في ثقافتنا المحلية الخاصة". ورداً على هذا يجيء الصوت الأميركي قائلاً: "لقد أثبت العرب أنهم ليسوا على استعداد لممارسة الديمقراطية بعد، وليس أدل على ذلك من قيام سياساتهم على الطائفية وليس على الكفاءة والأهلية السياسية". ولكن هل درى صناع السياسات الأميركية أن الكثيرين جداً من العراقيين يلقون علينا باللائمة على سيادة النزعة الطائفية في سياساتهم عقب إسقاطنا لنظام صدام حسين؟ ولو نظرنا إلى الأمر من زاوية نظر العراقيين لأدركنا أن النمط الطائفي للحكم لم يكن نموذجاً تقليدياً في تاريخهم السياسي المعاصر. ولذلك فإن فهماً كهذا سيكون عوناً كبيراً لنا في فهم حقيقة أن الحرب الأهلية الطائفية بين السنة والشيعة -كما نرى نذرها الآن- ليس حتمياً وقوعها، بل كان ولا يزال ممكن تفاديها. ثم إنه ما من أحد من دبلوماسيينا الموجودين في العراق اليوم يتحدث اللغة العربية، أضف لذلك اقتصار صلاتهم ومحادثاتهم واحتكاكهم بالعراقيين، على كبار المسؤولين العراقيين وحدهم. وكم هي عميقة عزلة هؤلاء المسؤولين وبعدهم عن "حقائق الأرض". ولذلك فإن تعيين مسؤولين أميركيين يتحدثون اللغة العربية أو يتمتعون بخبرة شرق أوسطية على الأقل، إلى جانب الحد من المخاطر المحدقة بحركة مسؤولينا خارج المنطقة الخضراء... إلى آخره من التدابير الشبيهة، ما يساعد كثيراً على احتكاكنا بحقائق الأرض وبلورة السياسات والحلول الملائمة التي نأخذ فيها بوجهة النظر العراقية قبل كل شيء. وفوق ذلك كله علينا تصحيح أخطائنا هناك. جانيسا جانز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسؤولة أميركية سابقة في العراق من أكتوبر 2000 وحتى يوليو 2005 ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"